وفاة الملك فيصل الأول في ظروف غامضة وتولي الأمير غازي الملك

وفاة الملك فيصل الأول في ظروف غامضة وتولي الأمير غازي الملك

في أول سبتمبر 1933، وصل الملك فيصل إلى العاصمة السويسرية برن للعلاج، حيث كان الإعياء يؤثر عليه بشكل واضح. نزل في فندق Bellevue الذي يطل على نهر الآر، ورغم وضعه الصحي الصعب، بدأ الملك في استقبال مراسلي الصحف والأصدقاء، محاولًا الرد على الدعايات المضللة التي استهدفته بسبب أحداث قمع ثورة الآشوريين بيد بكر صدقي.

كان القلق والانفعال واضحين على وجهه، وتميزت تصريحاته بشدة اللهجة وحركة يده القوية على الطاولة أثناء حديثه مع الصحفيين. تلقى تهديدات من الحكومة البريطانية بسبب تصاعد التوتر مع العراق، وتم تحذيره بالعودة الفورية إلى بغداد والتحكم في الأمور، وإلا فسيواجه عواقب وخيمة. جاء في إنذار الخارجية البريطانية: “إذا استمرت الحركات العسكرية ضد الآشوريين ولم تلتزم الحكومة بالأوامر، فستكون لها تداعيات سلبية على العلاقات مع بريطانيا“.

قضى الملك فيصل ثلاثة أيام في حالة من التعب المتزايد وتدهور صحته خلال هذه الفترة.

Original Caption: Death of King Faisal. Faisal, K

في السابع من سبتمبر 1933، أصيب الملك فيصل بآلام حادة في بطنه، ورغم وصول طبيبه الخاص على وجه السرعة وتم حقنه بحقنة تحت الجلد، شعر بتحسن طفيف. ومع ذلك، تدهورت حالته في منتصف الليل، وحضر إليه كل من نوري السعيد ورستم حيدر وتحسين قدري، ووجدوه في حالة خطيرة، حيث ألقى أنفاسه الأخيرة، قائلاً: “أنا مرتاح، لقد قمت بواجبي، وخدمت الأمة بكل قواي، ليسر الشعب بعدي بقوة واتحاد”. ومن ثم توفي.

أرسل نوري السعيد ورستم حيدر على الفور برقية إلى الحكومة في بغداد تعلن وفاة الملك. شُكِّكَ بشدة في السبب الحقيقي للوفاة، حيث أشار التقرير الطبي إلى انسداد الشرايين، بينما شعر الملك بآلام في البطن وليس في الصدر، مما أثار الشك في إمكانية وجود تسمم. زادت الشكوك أيضًا بناءً على وثائق بريطانية تحدث فيها السفير البريطاني هيمفريز عن اتفاق بين جعفر العسكري ونوري السعيد بتغيير نظام الوراثة لصالح الأمير زيد بعد وفاة الملك.

تم نقل جثمان الملك إلى بغداد في 14 سبتمبر، حيث شيّع رسميًا ودُفِنَ في المقبرة الملكية بالاعظمية. مع وفاة الملك فيصل، اختفت مذكراته وظلت محل شكوك حيال سبب اختفائها، وكانت التكهنات تشير إلى دور نوري السعيد في هذه العملية.

بعد وفاة الملك فيصل الأول في أيلول 1933، حاول نوري السعيد إقناع رئيس الوزراء رشيد عالي الكيلاني ووزير الاقتصاد رستم حيدر بإبعاد الأمير غازي عن العرش، مُقترحًا تولي الأمير زيد للملك، وذلك بادعاء أن الأمير غازي متخلف عقليًا. رفض الكيلاني هذه المحاولات بشكل قاطع وأجرى مراسيم تحليف الأمير غازي، الذي توَّج رسميًا ملكًا للعراق في 8 أيلول 1933، مما أفشل مخططات نوري السعيد.

في ظل هذه الأحداث، قدم الكيلاني استقالة حكومته، وبناءً على الدستور، قبلها الملك وكلفه بتشكيل حكومة جديدة. تسببت وفاة الملك فيصل في اضطرابات سياسية خطيرة، حيث تصاعد التنافس بين الضباط الشريفيين، الذين حاولوا الوصول إلى الحكم باستخدام البرلمان وتحريك العشائر. زادت هذه الأزمة فرص نوري السعيد لتعزيز نفوذه وتوسيع تأثيره في الشأن السياسي، حيث استغل الفراغ الناجم عن الصراعات للسعي للهيمنة على الساحة السياسية. بدعم من صهره جعفر العسكري، سعى نوري السعيد للتأثير على الملك غازي، حتى وصل التدخل إلى شؤونه الشخصية، منع زواجه وفرض زواجه من الأميرة عالية، مما أدى إلى جدل زواج فاشل وهجرة الملك غازي لها حتى وفاته.

le roi d’Irak Ghazi Ier pose en grand uniforme, en avril 1939 au Palais Royal de Bagdad. C’est en 1921 que Fayçal Ier fut proclamé Roi du Royaume d’Irak, devenant ainsi le fondateur de l’Etat d’Irak. Ghazi Ier, son fils, lui succède, suivi du Régent Abdul Illah, jusqu’à la majorité de Fayçal II qui fut le dernier Roi d’Irak. Le 14 juillet 1958, l’Armée, dirigée par le Général Kassem, renverse la royauté, décime la famille royale et déclare la première République d’Irak. Entre coups d’Etat et morts accidentelles, cinq présidents de la République succèdent au Général Kassem. Le dernier est Saddam Hussein depuis 1979. AFP PHOTO / AFP PHOTO

بناءً على رغبة الملك غازي، حاول نوري السعيد التدخل لمنع حل مجلس النواب، حيث توجه إلى السفارة البريطانية لتجنب تكرار موقف البرلمان الذي قد يؤدي إلى تشكيل حكومة يمكن أن تكون موالية للكيلاني. حذر السفير البريطاني الملك غازي من تداول أفكار حل البرلمان، مخافة زيادة تأثير الكيلاني. وحثه الأمير عبد الله ابن أخيه على عدم السماح بحل المجلس، محذرًا من مخاطر الصراعات الحزبية في حال تم حله. برغم تقديم الحكومة الكيلانية استقالتها، رفض الملك غازي حل المجلس، ما أدى إلى تكليف زعيم الإخائيين ياسين الهاشمي بتشكيل الحكومة، لكنه رفض هذا التكليف بسبب اشتراط الملك الإبقاء على المجلس النيابي. بعد اعتذار الهاشمي، قام الملك غازي بتكليف جميل المدفعي بتشكيل الحكومة في نوفمبر 1933، وكانت تشكيلتها تضم عدة وزراء من بينهم نوري السعيد ورستم حيدر.

تقدم المدفعي بمنهاج حكومي للبرلمان لكن الملك قام بتعطيل المجلس لمدة 30 يومًا، مما أثار توتراً. تجدر الإشارة إلى إضراب عام نشب ضد شركة الكهرباء البريطانية في هذا السياق.

جميل المدفعي، بعد تشكيل حكومته الجديدة، وجد نفسه أمام أزمة حادة نشبت نتيجة لإعلان العمال إضرابًا عامًا ضد شركة الكهرباء البريطانية، التي فرضت تكلفة باهظة على المواطنين. ارتفاع أسعار الكهرباء، حيث فرضت الشركة 28 فلسًا عن كل كيلوواط، أثر بشكل كبير على الطبقات الفقيرة التي كانت تعاني بالفعل من الأوضاع الاقتصادية الصعبة. نقابات العمال حاولت التفاوض مع الشركة لتخفيض الأسعار، لكنها رفضت، مستندة إلى التكاليف العالية لإنتاج الكهرباء.

استجاب العمال لدعوة الإضراب وتوقفوا عن استخدام الكهرباء، مما أدى إلى اتساع دائرة الإضراب لتشمل فئات واسعة من المجتمع. قامت الحكومة بمفاوضات مع الشركة، لكنها لم تحقق نتائج إيجابية تجعل النقابات ترفض الاستسلام. بدلًا من دعم الشعب، اعتقلت الحكومة العديد من قادة النقابات وحاكمتهم بالسجن. كما أصدرت تحذيرات للصحف المؤيدة للإضراب وهددت بإغلاقها، وقامت بإبعاد العمال النشطين.

السلطات البريطانية جلبت قوات عسكرية لحماية الشركة ورعاياها في عدة مدن.

حكومة جميل المدفعي لم تدم طويلاً، حيث نشبت خلافات بين أعضائها حول مشروع نهر الغراف وضرورة بناء سد عليه. اختلفت وزارات الحكومة حول أولويات الإنفاق، مع اعتبر وزير المالية أن تسليح الجيش هو الأهم. تسببت هذه الخلافات في انقسام في مجلس الوزراء، مهددًا بالاستقالة. وفي 13 شباط 1934، قدم المدفعي استقالته، وتم قبولها في 19 شباط، مكلفًا بتشكيل الحكومة من جديد في نفس اليوم.

أسفرت الحكومة الجديدة عن إلغاء قانون المطبوعات الصادر عن حكومة الكيلاني عام 1933، واستعادة القانون الصادر عن نوري السعيد عام 1930، مما أثار رفضًا واستنكارًا شديدًا من الصحافة والأحزاب. بالإضافة إلى ذلك، قامت الحكومة بمنع فعاليات ذكرى ثورة العشرين واعتقال عدد من المحامين والمثقفين، ولكن الشعب تحدى السلطة وأقام الاحتفالات في بغداد وكربلاء والنجف. خلال هذه الفعاليات، دعي إلى تعديل معاهدة 1930 وتحقيق الاستقلال الكامل للعراق.

تقدم جميل المدفعي باستقالة حكومته في 25 آب 1934، استجابة للشكاوى المنتشرة بين الشعب العراقي حيال سياسة الحكومة وانتشار ظاهرة المحسوبية والفساد. قام الملك غازي بقبول الاستقالة في اليوم التالي وكلف فوراً السيد علي جودت الأيوبي بتشكيل حكومة جديدة، وتم تشكيلها في 27 آب 1934.

أثارت هذه الحكومة استمرار الانتقادات، حيث اعتبرها الشعب امتدادًا للحكومة السابقة، وهاجمتها المعارضة بشدة. شهدت البلاد نشاطًا واسعًا للشيوعيين، واعتُقلت العديد من النشطاء بتهمة الانتماء لحزب غير مجاز. بالتزامن مع هذه الأحداث، حاولت الحكومة حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وقام الأيوبي بتنفيذ قرار حل المجلس النيابي، رغم معارضته له في السابق، مما دفعه لتقديم استقالة حكومته.

أجرت الحكومة الأيوبية انتخاباتٍ ملوّنة بطرق التزوير والترهيب والرشوة، حيث رفضت إدارة الصناديق الانتخابية للمنتخبين الثانويين وضع الأوراق في الصناديق إلا بعد فحصها من قبل ممثلي الحكومة، ما جعل البرلمان الجديد يأتي في واقع الأمر كتعيين وليس انتخابًا. هذا السيناريو أثار استياء الشعب والقوى السياسية الوطنية.

تسبب قانون الانتخاب ذو الدرجتين، المفروض من قبل البريطانيين، في تشكيل مجلس نيابي يعكس توجهاتهم ويمكن من دخول أنصارهم إلى البرلمان بتلاعب واضح. تلقت الحكومة الأيوبية انتقادات حادة عند افتتاح المجلس الجديد في 29 كانون الأول 1934، حيث أُلقيت اللوم عليها بسبب استمرار مسلسل حل المجالس النيابية وعدم إكمال دورتها المحددة بأربع سنوات. تسبب هذا النمط في ضعف دور المجالس وأفقد السلطة التشريعية من وظائفها الرئيسية، مما أدى إلى فساد الحياة السياسية وانخراط النواب مع الحكومات لضمان فوزهم في الانتخابات التالية. تمت مواجهة قرار حكومة حل المجلس وإجراء انتخابات جديدة بانتقادات حادة من مجلس الأعيان، الذي اعتبره مخالفًا للدستور ورفض مزاعم الحكومة بأن هذه الخطوة تستند إلى رغبة الشعب واستفتاء.

عندما وصلت معلومات رد مجلس الأعيان على خطاب العرش إلى أذن الشعب، اندلعت برقيات التأييد لتلك الردود، واستنكرت الإجراءات الغير قانونية التي اتخذتها الحكومة. دعت شخصيات سياسية معارضة إلى تكريم الأعيان الذين وقفوا ضد هذه الإجراءات.

على الرغم من محاولات الأجهزة الأمنية التابعة للحكومة لمنع إقامة الحفل، إلا أن القائمين عليه تحدوا الحكومة ونظموا الحفل. ردت الحكومة بعمليات اعتقال لعدد من المحامين والشخصيات السياسية المشاركين في الحفل، مما دفع بالشعب إلى إرسال برقيات احتجاج إلى الملك غازي.

أبدى عدد من الوزراء السابقين الذين منعتهم الشرطة من دخول قاعة الحفل استيائهم للملك بشأن تصرفات الحكومة. في إطار استمرار الحكومات في تأليف أحزاب موسمية عند توليها السلطة، قامت حكومة الأيوبي بتأسيس حزب يدعى “حزب الوحدة الوطنية”، محاولة تبريره بوحدة الأمة وتوحيد الصفوف، لكن لم يحظ هذا الحزب بتأييد شعبي، حيث اقتصرت تأييداته على عدد من النواب والوزراء. وبالتالي، أُلقب بالحزب الموسمي الذي يفقد وجوده بمجرد مغادرة الحكومة للسلطة.

شهدت المعارضة زيادة تصاعدية من قبل شخصيات سياسية ورؤساء عشائر استُبعدوا من مجلس النواب، حيث دعوا إلى اجتماع لقادة المعارضة. في ذلك الاجتماع، انتخب ياسين الهاشمي زعيمًا لهم، واتفقوا على ميثاق يتعهد بالإخلاص للملك، والالتزام بالدستور، وحل المنازعات بين العشائر بما يفضي إلى تحقيق الاستقرار وتجنب اللجوء إلى الحكومة.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *