ذكريات لمنطقة عرصات الهندية ..

ذكريات لمنطقة عرصات الهندية ..

عرصات الهندية:
منطقة تقع جنوب شرقي بغداد على ضفاف نهر دجلة، محاطة من الشمال الشرقي بمنطقة المسبح، ومن الجنوب بقرية الناظمية، ومن الغرب بالكرادة خارج. تتسم المنطقة بأراضٍ زراعية كانت تُزرع بمحاصيل مثل اللهانة والخس والقرنابيط. وكانت ملكيتها تعود إلى دائرة الأوقاف.

مشروع الاستثمار العقاري في عرصات الهندية:

في أواخر الأربعينيات من القرن الماضي، اتخذت دائرة الأوقاف قرارًا بتحويل هذه الأرض إلى استثمار يعتمد على نظام المساطحة، حيث تم تأجير الأرض لمدة 30 عامًا للمستثمرين الذين يقومون ببناء منازل للسكن. كان يتعين على المستثمرين تسليم الملكية إلى الأوقاف عند نهاية العقد.

تم تقسيم المنطقة إلى 600 قطعة أرض، تتنوع مساحاتها بين 700 متر مربع و 1400 متر مربع، بالإضافة إلى عدد قليل من القطع الكبيرة والتي وصلت بعضها إلى 3000 متر مربع. بدأ العمران في هذه المنطقة على ضفاف نهر دجلة في أوائل الخمسينات، وتم تنظيمها بشكل شارع رئيسي بعرض 20 مترًا، وثلاث شوارع فرعية بنفس العرض، بالإضافة إلى أزقة بعرض 12 مترًا، والتي ربطت المنطقة مع مناطق الكرادة خارج والمسبح.

العرصات: محطة التقدم والتنوع الثقافي:

شهدت منطقة العرصات ازدهارًا ملحوظًا لعدة أسباب، حيث جمعت بين النخبة من المجتمع العراقي والمتحررين من العادات والتقاليد الاجتماعية. كانت تمثل عراقًا صغيرًا يضم طوائفه المختلفة وأديانه وقومياته. تتميز هذه المنطقة بالنظافة والحداثة وتوفير خدمات ممتازة مقارنة بالمناطق الأخرى.

كانت العرصات موطنًا للكثير من الأجانب والدبلوماسيين والأطباء والمهندسين والتجار والصناعيين، حيث كانت تحظى برعاية بلدية فعّالة. كانت توفر خدمة التوصيل المجاني لبعض الاحتياجات. شابة وحيوية، كان شباب العرصات يتميزون بطموحاتهم نحو التقدم، وكانوا يحاولون محاكاة تقنيات وأسلوب حياة أوروبا وأمريكا.

روح التجديد والمشاركة في عرصات الهنديه:

كان شباب العرصات جزءًا حيويًا من الحياة الاجتماعية، حيث شاركوا بفعالية في الفعاليات الوطنية والقومية وتفاعلوا معها بقوة. على الرغم من تضييق المجتمع في تلك الأيام، كان هناك نوع من الانفتاح الاجتماعي بين العائلات والجنسين في العرصات.

كان الشباب يشاركون بنشاط في كل الفعاليات الوطنية والقومية، وكانوا جزءًا لا يتجزأ من المجتمع. كانت هناك تحديات تجعل البعض يشعر بالحرج من دخول العرصات، خاصةً من الشباب القادم من المناطق الأخرى، إذ كانوا يخشون عدم التوافق في الملبس أو التصرف أو حتى في الحديث. وقد قادت تلك التجارب الى تشكيل صور نمطية حول العرصات.

اشتهرت عرصات الهنديه في منتصف الستينيات بعد حادثة عرضية، سنلقي الضوء عليها لاحقاً، مما جعلها محطة للاحتفالات في عيد رأس السنة، حتى وصلت الأمور إلى حد تدخل الجهات الأمنية.

روح الأخوة والمشاركة في عرصات الهنديه:

كنا مجموعة من الأصدقاء، لا تتجاوز عددنا 10 شبانًا، من عائلات مختلفة ماديًا ودينيًا ومذهبيًا. كانت العرصات تضم أغلبية مسيحية، ولم نشعر يومًا بأي حرج أو خلاف، بل كنا نتعايش بشكل يفوق التصور. كانت الفعاليات مشتركة، والبيوت مفتوحة، والعلاقات على أحسن ما يكون.

من بين العوائل في تلك المنطقة: بيت مبارك (تجار مواد غذائية)، بيت علاوي (تجار وصناعيين)، بيت الخضيري (تجار وصناعيين)، بيت حمره (تجار وصناعيين)، الجميلي (صناعيين)، محمد علي عبود (طبيب مشهور)، الحاج خليل الهنداوي (صناعي)، السبتي (مقاولون)، بوتاني (تجار)، بيت رومايا (تجار)، بيت بابان (تجار)، الدكتور سلوان جمال بابان (الطبيب المشهور)، بيت الطالباني، حسن الطالباني عم المام جلال، بيت عاصم فليح، بيت الرسام، بيت البير، بيت الأورفلي، وغيرهم الكثير.

كانت فعاليات الشباب متنوعة، من السفر في الصيف إلى لبنان إلى الدراسة في الشتاء وزيارة النوادي والمكتبات ومعاهد اللغات، وركوب الخيل، وقيادة السيارات. ومن بين هذه الأنشطة، كانت الاحتفالات برأس السنة الميلادية هي الأهم.

ذكريات ملكة جمال بغداد وليلة الفرح:

في عام 1963، تتوج السيدة سميرة قرمة بلقب ملكة جمال بغداد في حفل بهيج في نادي الأوبراج في بارك السعدون. كان هذا الحفل احتفالًا لكل الشباب. في العام التالي، عام 1964، وفي عيد رأس السنة، قامت الملكة سميرة بإقامة حفل في منزلها.

كانت المفاجأة أن الشباب لن يدعو إلى الحفل إلا إذا كانوا بصحبة فتاة. كان هذا شرطًا صعبًا في تلك الأيام. وفي ليلة 31 ديسمبر عام 1965، أثناء جلوسنا في صالون الحلاقة، دخل علينا صديقنا فاروق، صاحب مطعم الأفريقي مقابل سينما سميراميس. قدّم لنا فكرة جريئة ألا وهي أن يلعب دور فتاة في الحفل. وافق وتم تجهيزه بالمكياج اللازم، ودخلنا أربع فتيات وشاب واحد (تقليدًا). نجحنا في دخول الحفل، ولكن اكتشفت هويتنا عندما تناول أحدنا المشروب، وعلى إثرها صرخت إحدى الفتيات: “هؤلاء شباب العرصات!!”

خرجنا إلى الشارع، وكانت الساعة تقارب الواحدة صباحًا. تجمعنا في وسط المنطقة، وتوقفت بعض السيارات القادمة من الاحتفالات. نزل بعض الشباب والصبايا من السيارات، وفي تلك اللحظة وقفت سيارة (فان) بها فرقة موسيقية وآلاتها. تم نزول الآلات إلى الشارع، وبدأ العزف. نزلت بعض الفتيات ورقص الجميع، حتى أصبحت فرحة تعم المكان حتى الساعة الرابعة فجرًا.

تقليد فريد ومأساوي:

في أعقاب هذه الليلة الفريدة في عام 1965، أصبحت تلك الفعالية تقليدًا سنويًا يؤديه الشباب لسنوات متتالية، حتى وصل الأمر إلى الأجيال الأصغر سنًا. تتجسد هذه التقاليد بأشكال مختلفة، حيث يحضر مئات الشباب من جميع مناطق بغداد.

في بداية السبعينات، توقفت الظاهرة لفترة، لكنها عادت بقوة، حيث يتجمع الشباب في المنطقة من جميع أنحاء بغداد. في تلك اللحظة، أصبح هناك إجراء تقليدي ينطلق سنويًا، ولكن في بدايات السبعينات لم يكن هناك من يقوم بالتقليد، مما دفع الشباب إلى الهجوم على المحلات التجارية ورمي الزجاجات الفارغة على المنازل. اضطرت الشرطة إلى التدخل واعتقال بعضهم.

تُظهر هذه الحادثة الواقعية مدى حجم الحرية والتحليق الذي كان متاحًا بين الأصدقاء والشباب في ذلك الوقت. تعكس هذه التجارب مفقود الأجيال اللاحقة لهذا الانفتاح والتواصل بين الأصدقاء، ما أدى إلى فقدان جوهر هذه الروح المستقلة.

رحلة العرصات:

تظل العرصات محطَّ انتباه النخبة في المجتمع العراقي، حيث احتضنت الكثير من الشخصيات البارزة، من المسؤولين مثل (سعدون شاكر، المرحوم صباح مرزا، السيد طارق عزيز، سمير الشيخلي وسابقًا جمال بابان وزير، وإيهاب التك وزير، وعبد الأمير علاوي وزير، وغيرهم). “العرصات اليوم… تسر العدو وتحزن الصديق”، إنها اليوم تُمثل مزيجًا من المحلات والمخازن والأفراد الذين لا يمكن التعرف على لونهم أو طعمهم أو حتى شكلهم. تأتي هذه المجموعات من واقع ريفي وقروي، اغتنت بسبب الأحداث، اشترت أجمل البيوت وأصبحت اليوم تضم فيها أشخاصًا كانوا يخجلون في الماضي من دخولها، بل كانوا يعبثون فيها، ولكنها اليوم شهدت تغييرًا عكسيًا، حيث يتجنب الكثيرون المرور بها ويتفادونها لتجنب الارتفاع في ضغط الذكريات والانفعالات.

تعتبر هذه المنطقة زهرة بغداد القديمة، حيث لم تكن المنصور ولا الجادرية ولا الحارثية ولا شارع الأميرات موجودة. كانت الكرادة تتألق بمنازلها الهادئة، وكانت وحدها قبلة الزوار، وكان البغداديون يتباهون بها.

كانت قناني الحليب والصمون تصلنا يومياً إلى المنزل، وكان بإمكاننا استدعاء الغاز السائل بمجرد الاتصال بالشركة وذكر رقم الاشتراك، حيث كان يتم تبديل القنينة من قبل العامل مقابل 125 فلسًا. كان هذا النظام يشمل أيضًا منتجات الألبان والمشروبات الغازية، بالإضافة إلى خدمة توصيل المأكولات والمشروبات إلى المنازل والأسواق وفقًا للطلب. كانت هذه التجربة تمثل نموذجًا يحدوه النجاح في أوروبا، ولكنها، بدلاً من أن تُعمم كتجربة ناجحة، تعرضت للتخريب، كما حدث في أغلب مناطق بغداد. يهمني التأكيد أن الشباب في العرصات لم يكونوا مُنصرفين إلى اللهو، بل كانوا متفاعلين مع جميع القضايا الوطنية والقومية.

تعليق واحد


  1. Haider Gnow

    كان عمي المرحوم ،زوقي كنو من اوائل من سكن شارع الحديد والخشب وسمي العرصات وكان منزله على الشارع العام بمساحة ١٢٠٠ م كانت تزهر باجمل فيفساء من نخبة المجتمع العراقي اما الان لا أعرف من يسكنها بعد أن اختلط الحابل بالنابل ربي يحفظ كل الناس الاصلاء والعراقيين واتمنى التوفيق للجميع

    الرد

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *