كيف اندثرت محلة (البوحيات) في بغداد؟

كيف اندثرت محلة (البوحيات) في بغداد؟

توجد محلة البوحيات (آل حيات) في منطقة المربعة والحاج فتحي، حيث تتميز بإطلالتها الخلّابة على نهر دجلة الخالد. يأتي اسم المحلة من عائلة حيات التي تشكل غالبية سكانها. شهدت المحلة حملة عسكرية قادها علي رضا اللاز وجيشه ضد الوالي داود باشا، الذي أعلن استقلال العراق عن الدولة العثمانية. هذه الحملة أدت إلى تدمير المحلة وتشريدها.

تأثرت المحلة بكوارث طبيعية خلال الحملة، حيث أسهمت في تدهور وضعها. قام اللاز بإحراق المحلة كجزء من انتقامه من سكانها الذين دعموا الوالي داود باشا وتبنوا دعوته للاستقلال عن السيطرة العثمانية. تضاف إلى هذا السياق كوارث منها فيضان نهر دجلة وانتشار مرض الطاعون، اللذان ضربا المنطقة وألحقا الأذى بالسكان.

سكان محلة البوحيات، الذين يتبعون قبيلة (آل حيات)، يشكلون جزءًا من القبائل العراقية، وينتشرون في ثلاث مناطق رئيسية: الأنبار حيث أصل القبيلة، والبصرة التي لجأ إليها الهاربون من بطش الجيش العثماني، وبغداد حيث بقي أحدهم واختبأ بين المحلات البغدادية. يعتبرون قبيلةً أصيلةً وكريمةً، تتمتع بجذور عميقة في التاريخ العربي والإسلامي.

قد وفرت لي الفرصة التجربة الفريدة لتناول العشاء في مضيفهم في منطقة حديثة، حيث كانت الطاولة تضم شخصيات هامة من المجتمع العلمي والأدبي والثقافي والاجتماعي والإعلامي والسياسي. تذكرت هذه التجربة خلال ندوة “حديثة في التاريخ” التي نظمها مركز إحياء التراث العلمي العربي بجامعة بغداد بالتعاون مع قائممقامية قضاء حديثة عام 1998. شارك في الندوة جمع من الشخصيات المرموقة، بما في ذلك العلامة الراحلة الدكتور حسين علي محفوظ وشيخ المؤرخين.

في إطار ندوة تاريخية أقامها مركز إحياء التراث العلمي العربي بجامعة بغداد بالتعاون مع قائممقامية قضاء حديثة عام 1998، تلاقى وفد بغداد مع شخصيات بارزة في محلة البوحيات. تنافست قبائل المنطقة الغربية على استضافة الوفد لثلاثة أيام، وكانت القرعة لصالح قبائل الجنابات وآل حيات وآل جعفر والبونمر والآلوسيين.

تعاونت تلك القبائل في تنظيم وجبات الاستضافة على مدى الندوة، حيث تمت وجبة الغداء في مضيف الشيخ محمد الجنابي ووجبة العشاء في مضيف آل جعفر. شهدت وجبات الغداء لليومين الباقيين استضافة مضيفي البونمر والآلوسيين.

تميزت ليلة العشاء في مضيف (آل حيات) في مرابعهم، حيث قدموا وجبة فاخرة وأجواء لطيفة. خلال هذه التجربة، أتاحت للوفد فرصة التعرف على رجال قبيلة (آل حيات) أو الحيانيين، كما يسميهم البعض، وكانت فرصة لتبادل الأحاديث حول تاريخهم وتراثهم.

قام مشروع “أحياء ذكر” بتسليط الضوء على تاريخ محلة البوحيات، حيث يعتبر أحد أحفادها مديرًا لشركة فورد للسيارات، وتسليط الضوء على البطل حسن بن علي بن حيات الذي قاد مفرده جموعًا من أطفال شهداء السادة الحسينية في منطقة الجربوعية. ألقى الضوء أيضًا على أحفاد آل حيات المتميزين في مجالات مختلفة، بدءًا من مديري شركات السيارات والأطباء البارعين إلى شيوخ الإسلام والقضاة البارزين.

تأثرت المحلة بأحداث تاريخية جللة خلال حكم داود باشا الذي أعلن استقلال العراق عن الدولة العثمانية. رافقت هذا الإعلان حملة عنيفة تسببت في مأساة كبيرة لأهالي المحلة، إلا أن الشجب والمقاومة كانت قوية، حيث طوقت القوات العثمانية المحلة الثائرة. رغم الألم والفاجعة، استطاع السكان الحفاظ على تاريخهم ومعالمهم الهامة، مثل مسجد الإمام ظهير الدين الحسيني.

تذكر المحلة هذه الفترة الصعبة والواقعة التي حلت بها جيدًا، ويظلون يؤكدون على أهمية الصمود والحفاظ على تراثهم.

تقدّم الباحث الحياتي كمية هائلة من المعلومات حول المحلة المنكوبة، والتي عرفت بمأسيها ومتاعبها تحت حكم علي رضا اللاز القائد العسكري العثماني. نجح الباحث في تنقيباته في اكتساب معلومات عن آل حيات والتركيز على رجالهم ومواقفهم ودورهم في تاريخ العراق الحديث. هذا الجهد يُعد خدمة للتاريخ وللحقائق المفقودة التي تُغفل بعض المؤرخين عن ذكرها، مما يجعل هذا البحث دعوة للانتباه إلى الحقائق الضائعة.

في ضوء ذلك، يعتبر الباحث مساهمًا فعّالًا في استرجاع تلك الفاجعة المروعة وتوثيق تفاصيلها بشكل دقيق. يُشجع المؤرخين على التجرد من التبعيات والمرجعيات الشخصية عند التناول لتلك الحقبة المهمة من تاريخ العراق. وتتطلب الجهات الثقافية والفنية والأدبية تحويل هذه النقاط المضيئة إلى أعمال فنية تحمل نزاهة ومصداقية، تكون ذات تأثير فكري وسياسي على الجمهور، وتشكل وثيقة هامة تسجّل تطورات وأحداث تلك الحقب والدهور بشكل دقيق.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *