طريقة التلاوة البغدادية في ذاكرة احد قراءها ..

طريقة التلاوة البغدادية في ذاكرة احد قراءها ..

عند الإشارة إلى مدارس التلاوة القرآنية، تبرز الطريقة البغدادية في صدارة القراءات، حيث تجسد انسجامًا بارعًا مع التراث النغمي العربي وتحافظ على التنوع المقامي والأصول التي اعتمد عليها مؤدوها. مع العصور، أحاطت الطريقة البغدادية بتراثها عبر أجيال القرّاء، حتى في العصر الحديث الذي شهد انتشار مدارس أخرى، مثل الطريقة المصرية التي وجدت جماهير في العراق نظرًا لشيوع استخدام الراديو وزيارات قرّاء مصريين.

وعلى الرغم من وجود مدارس أخرى، إلا أن الطريقة البغدادية لا تزال حاضرة بقوة في ذاكرة بغداد، حيث يحتفظ بها الوجدان بكل فخر وإعجاب. وقد أثبت قدرتها على الحفاظ على تراث روادها، الذي ينتقل بين الأجيال بكل بريق وتألق. وقد برزت أسماء كبيرة في هذا الميدان، مثل الملا عثمان الموصلي وجاسم السلامة والحافظ مهدي العزاوي وملا خماس وعبد الفتاح معروف ومحمود عبد الوهاب وعبد القادر الخطيب وعبد الستار الطيار وعبد المنعم أبو السعد وحيدر الجوادي وعلي حسن داود وقصي أبو السعد وعبد المعز شاكر ومحي الخطيب وعلاء القيسي، وغيرهم الذين نُحيي ذكراهم.

يظل الحافظ خليل إسماعيل رمزًا بارزًا للطريقة البغدادية، حيث يحمل ميراثها بإتقان. يكمن جمال الأيام في الاحتفاظ بتراث هذا الرجل في قلوب محبيه وفي وسائل الحفظ الحديثة، ليبقى إرثًا معرفيًا وفنيًا يتناقله الأجيال القادمة. قد كانت لي أيامٌ محظوظة حين التقيت بالحافظ خليل إسماعيل في منزله بمنطقة العطيفية، لا يبعد كثيرًا عن مسكني، واستمعت منه إلى لمحات عن طريقته الرائعة في التلاوة وتاريخها. كان يؤكد بشكل متكرر أن الطريقة العراقية تتبع مذهب حفص أبو عمرو بن سليمان من القراءات السبع المجمع عليها، وقد عاش حفص في البصرة واتصل بالخليل بن أحمد الفراهيدي، ثم نقل إلى بغداد وقرأ بها.

وأكد أيضًا أن العراقيين يعشقون هذه الطريقة ويُفضلونها على غيرها، وكان الملا عثمان الموصلي يقرأ بالقراءات السبع لفحص تفاعل الحضور، ووجد أنهم لا يستسيغون إلا طريقة حفص التي اعتمد عليها القرّاء منذ القدم. وفيما يتعلق بالمقام العراقي وتأثيره على قرّائنا، أشار إلى تأثير واضح لهذا المقام، وذكر العديد من القرّاء العراقيين المؤثرين مثل الحويزاوي والجاركاه والزنكان والمخالف والخنبات والشطراوي والعنيسي والمصلاوي والخابوري والمثنوي وغيرهم.

وعندما تطرق إلى زيارة الموسيقي العربي سامي الشوا لبغداد، أكد على ضرورة الحفاظ على القراءة العراقية، ووصفها بأنها مدهشة، على الرغم من كونه رجلًا قبطيًا، ولكنه فنان كبير ولديه ذوق دقيق. كما أفاد بأنه تأثر كثيرًا بالاستاذ محمد القبانجي، وكان صديقًا له، وبعده مع رشيد القندرجي والحاج سلمان الكفجي وجميل بغدادي وغيرهم من القرّاء الكبار. وأضاف أنه لم يُعير اهتمامًا كبيرًا للمواليد، ويروج للفكرة بأنها صناعة متعبة أحيانًا وتُستهلك القاريء، على الرغم من وجود الكثير من اللمحات الفنية والتراثية الجميلة

ولد في محلة سوق حمادة عام 1920، وتلقى دروسًا من الملا رشيد والملا عبد الله والملا عواد العبدلي. فيما بعد، استمر في تعلمه على يد الملا محمد ذويب، وقام بتعلم التجويد من جاسم السلامة النجدي في الفترة بين 1932 و1937. وبعد ذلك، انضم إلى المدرسة الدينية في جامع نائلة خاتون في الحيدرخانة، حيث تخرج عام 1943، ثم عاد للدراسة مرة أخرى وتخرج عام 1952، حيث كان متفوقًا على زملائه.

تميز في ذكرياته بأنه كان الواعظ في المدرسة يحب أن يستمع إلى مقام الخلوتي من الماهوري والمخالف والبهيرزاوي. وفي عام 1937، تم تعيينه في جامع السراي، ثم انتقل إلى جوامع أخرى، وكان آخرها جامع الحاج محمود البنية حيث كان يقوم بالتلاوة والتدريس. كان صوته وأسلوبه يلفتان انتباه الكثيرين، حيث كانوا يحضرون للجامع للاستماع إليه وتسجيل تلاواته. ذكر أنه قرأ بنغم ومقام الزنكران، وكان أحد القراء القلائل الذين جرؤوا على ذلك نظرًا لصعوبته، ولكنه نجح في تقديمه بدقة عالية. وكان يكرر بشكل متكرر حديث النبي: “زينوا القرآن بأصواتكم، فإن الصوت الحسن يزيد القرآن حسنًا”.

في عام 1941، قدمت للاختبار في الإذاعة، حيث كانت تديرها فائق السامرائي وكان سكرتيرها سلمان الصفواني. أختبرت لدى الحاج محمود عبد الوهاب وتم رفضي، ولكن لاحقًا أعطوني فرصة بعد أن سمعوا تلاوتي في جامع الشيخ صندل في الكرخ. تم قبولي بسرعة، وكانت أول تلاوة على الهواء في 11 تشرين الثاني 1941، حيث قدمني حامد محمود الهاشمي، ثم انضمت تلاوتي إلى عبد الستار الطيار والحافظ صلاح الدين.

في 1943، قامت إذاعة لندن بتسجيل بعض تلاواتي وأذيعت حتى يومنا هذا. في عام 2000، تدهورت حالته الصحية، وتم نقله إلى دار التمريض الخاصة في مدينة الطب ببغداد وأُجريت له عملية غسيل الكلى التي استمرت مرات عديدة، لكنه تعب كثيرًا حتى وافته المنية في الرابع من تموز 2000. شُيع بموكب مهيب من جامع المعز إلى مقبرة الكرخ العامة.

عدة شعراء نعوه، ومنهم الدكتور رشيد عبد الرحمن العبيدي الذي وصف رحيله بكلمات مؤثرة في قصيدته.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *