حكاية شارع الرشيد

حكاية شارع الرشيد

شارع الرشيد، المعروف أيضًا بالجادة العمومية أو خليل باشا، يمثل محورًا معماريًا حيويًا في مدينة بغداد. على الرغم من أنه كان لفترة طويلة قلب الحياة الحضرية والسياسية، إلا أن التحولات العمرانية الأخيرة جعلت من الشوارع الأخرى، مثل الجمهورية وغازي الكفاح والشيخ عمر ومحمد القاسم السريع، تلعب دورًا أكبر في شبكة الطرق والحياة الاجتماعية في بغداد.

تاريخ الجادة الجديدة يعود إلى عهد سليمان باشا الكبير والي بغداد عام 1780، حيث كانت أول محاولة لإنشائها. ورغم تداعيات الظروف ووفاة سليمان باشا في عام 1802، إلا أن مدحت باشا جدد الفكرة في 1868، لكن توقف تنفيذها عندما استدعاه السلطان إلى الأستانة. في عام 1910، حين كان حسين ناظم باشا واليًا على بغداد، عادت فكرة الجادة الجديدة للظهور. وعلى يديه تم رسم مخطط جديد بناءً على تصاميم سابقة، لكن تعيين جمال باشا السفاح أنهى فكرة تنفيذها في 1911. مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، قاد القائد الألماني درغولج مبادرة لتخطيط جديد للجادة في 1916، حيث تم هدم جدران القنصلية الإنجليزية وبدأت أعمال البناء، مع تأثير أحداث الحرب التي أدت إلى انحراف في مسار الشارع.

جادة خليل باشا شهدت مراحل ملحمية في تطويرها، حيث انتهجت السلطات المدنية والعسكرية استخدام السجناء في تكسير الأحجار وتسوية الأرض لهدم الأبنية وتجهيز الشارع، مما أدى إلى نشوء المثل الشعبي “يدك احجار بالجادة”. ورغم تدخل بعض المتنفذين وتوقف أو تحويل عمليات الهدم، إلا أن عودة خليل باشا وجهود رئيس البلدية أعادت الحياة للمشروع، حيث تم افتتاح الشارع في 20 آب 1916، وجرى نقش اسم خليل باشا على قاعدة الشارع ومنارة جامع السيد سلطان علي. استمرت عمليات الهدم حتى انتهاء الاحتلال الإنجليزي في أواخر آذار 1917.

في عام 1932، قررت أمانة بغداد تسمية الشارع الجديد بـ “شارع الرشيد”، بينما حمل الشارع العرضاني الممتد من جامع مرجان إلى نهر دجلة اسم “شارع السمؤل”، بعد رفض مقترح لتسميته “شارع الصيرفة”. تم تسمية الشوارع الفرعية بأسماء تعكس مواقعها، مثل شارع المستنصر، شارع المأمون، شارع مدحت باشا، شارع ابن نؤاس، شارع خالد بن الوليد، شارع المتنبي، شارع الفضل، وشارع الشيخ عمر. تغيرت أسماء بعض هذه الشوارع بتغير الأوضاع السياسية، ولكن بقي شارع الرشيد يحتفظ بتسميته الأصلية.

شارع الرشيد يروي تاريخاً غنياً في ملامح بغداد ومبانيها. ينطلق من منطقة باب المعظم، حيث كان يقع باب السلطان أو باب سوق السلطان، الذي تم هدمه في عام 1925 وكان مجاورًا لجامع الأزبك. في اتجاه الميدان، يتقاطع الشارع مع جامع المرادية وبناية المكتبة الوطنية ودار الكتب والوثائق. جامع المرادية الذي شيد في عهد والي مراد باشا عام 1566 يطل على ساحة الميدان، وقبيل وصولنا إلى سوق الهرج الحالي، كان موقع “اويل الهلال” الذي أحيت فيه أم كلثوم أول حفلاتها في 9 تشرين الثاني 1932. في الجهة اليسرى من الشارع، كان موقع فندق الجواهري ومحلة الميدان كانت جزءًا تاريخيًا من سوق السلطان. وعند مغادرتنا الميدان، نرى مقهى الزهاوي، المعروفة باسم الشاعر، وقبل وصولنا إلى جامع الحيدرخانة على اليمين، نشاهد مقهى “حسن العجمي” المكان الذي كان ملتقى للصحفيين والبرلمانيين والمثقفين. كما نرى أيضًا مقهى البرلمان الذي تحول اسمه لاحقًا إلى مقهى الرشيد وأغلق في الثمانينيات. هذا الشارع الضيق كان موئلا للعديد من الصحف المعروفة في ذلك الوقت، بما في ذلك جريدة الحرية لقاسم حمودي والهاتف لجعفر الخليلي وغيرها.

جامع الحيدرخانة أقيم في عام 1827 على يد الوالي داود باشا، وتم افتتاح مدرسة الداودية فيه لتعليم القرآن الكريم. كانت واجهته تتميز بكتيبة مصنوعة من القرميد بخط الملا صابر. بعد إعادة ترميم الجامع، قام الخطاط هاشم محمد البغدادي بتجديد الكتابات القرآنية. وفي مكانه يومنا هذا، يُذكر أنه يتناسب مع الجامع الذي بُني في عهد المستضيء بأمر الله العباسي في عام 1201، وكان يسمى في العصر العباسي بسوق الخبازين، بالقرب من درب الخبازين الذي كان جزءًا من دروب بغداد العباسية ويُعرف اليوم بـدرب العاقولية. وقد كان في موقع مدرسة المرجانية، التي بُنيت عام 1356، سينما رويال التي تغيرت لاحقًا إلى سينما الحمراء الصيفية. وقربه من سوق الصفافير، حيث يُصنع فيه الأواني النحاسية، وهو واحد من أسواق محلة سوق الثلاثاء القديم. وعند مدخل سوق الشورجة يقع الموقع السابق للمدرسة المرجانية، التي تم هدمها في عام 1947 لتوسيع شارع الرشيد.

بالقرب من المدرسة المرجانية وعند مدخل شارع المصارف الذي يؤدي إلى شارع النهر أو شارع المستنصر، يقع خان مرجان الذي تُطل بوابته الأصلية على سوق البزازين، ووفقًا للنقشبندي، يُعد بناء الخان إحدى التحف المعمارية المتميزة في العالم الإسلامي، بفضل عقوده الشاهقة وزخارفه الجميلة. يتألف الخان من طابقين، حيث يحوي الطابق الأسفل على 22 غرفة، والطابق الثاني على 23 غرفة تُطل على باحته المستطيلة. ويتزامن موقع الخان مع موقع دار بدر وباب بدر، جزءًا من أبواب سور دار الخلافة العباسية.

تُعد منطقة الشورجة رئة بغداد التجارية فيما يخص الأطعمة والأفاويه والشموع، ويمتد شارعها بشكل عمودي إلى شارع الرشيد وصولًا إلى شارع الجمهورية. وفي تلك المنطقة، كان هناك منطقة مسقفة تصل بين شورجة الجملة (التي تتعامل مع الدهون والرز والبقوليات) وشارع الملك غازي – الكفاح.

بعد تجاوزنا المنطقة، نصل إلى رأس محلة المربعة حيث يقع جامع السيد سلطان علي، مكان المدرسة الثقنية والرباط الثقني التي أنشأها ثقة الدولة علي بن الانباري. وعندما نتقدم في المنطقة، نصل إلى سينما الزوراء القديمة ومنطقة المربعة التي كانت تُعرف في العصر العباسي بمحلة “باب المراتب”، وكانت تعتبر جزءًا من دار الخلافة العباسية.

في هذه المنطقة، كان هناك ملهى الفارابي وفرعه الصيفي في حديقة مجاورة، وكانت تعد المربعة مكانًا مفضلًا للمطربات العربيات في الخمسينيات والستينيات. تقابل سينما علاء الدين الشتوي ومقهى المربعة بالقرب من متجر الصحافة.

في نهاية شارع الرشيد، نجد فندق تايكرس بالاس وفندق السندباد (المعروف سابقًا بـ مود) وسمير أميس، وكذلك الفنادق المجاورة التي تقع مقابل البريد المركزي اليوم. تم هدم هذه المنطقة أثناء إنشاء جسر السنك الحديث، حيث يقع مرقد ابن الجوزي بالقرب من دار عبد الرحمن النقيب، أول رئيس وزراء للعراق الحديث. يتزامن هذا الموقع مع محلة باب الأزج، وقبيل نهاية شارع الرشيد، نرى على الجهة اليمنى سينما روكسي الدار، التي سكنها الفريق دي غولتز، قائد الجيش العثماني، وكانت مكانًا لوزارة الاقتصاد في وقت لاحق.

ينتهي شارع الرشيد عند ساحة التحرير، حيث كان يُطلق عليها قديمًا اسم باب البصلية، نسبة إلى باب بغداد الجنوبي. كانت تُعرف أيضًا بباب كلواذي في العصر العثماني، وهي كلمة تركية تعني الذباب، مشيرة إلى كثرتها في المنطقة.

تتميز معمارية شارع الرشيد برواقه المتسلسل المستند على أعمدة متشابهة التقنية والتيجان. شهد الرواق العتيد للشارع إنشاء بناية بيت اللنج في عام 1906، واعتمد نظام الطلعة الخارجية (الرواق) كريازة ملائمة للبنية المحلية، وتبعتها أصحاب العمارات الأخرى. ظهرت الطوابق الثانية للعمارات مزينة بالشناشيل المعتمدة على أعمدة الشارع، ثم تحولت الكتل الخشبية إلى كتل معمارية متطورة بفضل الأسمنت والتصاميم الحديثة، محافظة على وحدة شارع الرشيد وجماله الأصيل.

ختام الرحلة:
رغم اختلاف آراء الناس حول سمعة وأهمية شارع الرشيد اليوم وتقييمه المعماري كشارع متناغم بين الحاضر والماضي، يظل الرشيد مرتبطًا بأحداث العراق الحديث. فقد شهد حياة برلمان العهد الملكي وتواجده بالقرب من شاطئ دجلة عند يسار الميدان. جلس في مقاهيه الرصافي، والزهاوي، والكرملي، وأحمد الصافي، والسياب، وشاذل طاقة، وشباب الستينيات الذين ناقشوا مسائل تغيير العالم. استمتع به وقف فيه نوري السعيد عند ابن كنو، وعلا صوت مهدي البصير في جامع الحيدرخانة خلال ثورة العشرين. كان يرتفع صوت أم كلثوم وعفيفة في جوهر الفن ولا ننسى مكتبة مكنزي وروادها، فقد كانت مسرحًا لعرض أول الأفلام العراقية في دور الخيالة، وشهدت انتشار مقار الصحف القومية في أرجائه. وكانت المحصلة النهائية لهذه الثلاثية – العشق والولادة والموت – تأكيدًا للوجود العراقي الجميل والأخاذ الذي يميزه.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *