حديث رفعة الجادرجي عن نشأته الأولى

حديث رفعة الجادرجي عن نشأته الأولى

في نشأتي الأولى، كان والدي الشخص المؤثر الرئيسي. لم يتحدث بلغة دينية أبدًا، ولم أسمع كلمة “الله” منه. بينما كانت والدتي تؤدي بعض الطقوس الدينية، إلا أنها لم تستخدم لغة دينية بشكل بارز، على الرغم من إيمانها إلى حد ما.

منذ طفولتي، كنت ثائرًا على تقاليد المجتمع ولم أؤمن بالقوى الغيبية. حين أخبروني بوجود عفاريت في سراديب البيوت، ذهبت لها لأثبت أنها خالية منها. تأثرت قليلاً بلغة دينية، لكن دراستي في مدرسة علمانية ساعدتني على تجاوز ذلك. قسمت بيوت جدي بعد وفاته في عام 1927، وعشت في عدة بيوت، منها بيت في الكرّادة الشرقية يطل على نهر دجلة، ولم يدم إقامتي فيه أكثر من عام.

في البيت الأول، الذي كان مشتملًا ملتصقًا بحائط الجيران، كانت أمامه حديقة واسعة. بعد عام، انتقلنا إلى حي باب الشيخ واستقرينا في دار كبيرة مع حوش وغرف متعددة، بينها غرفة واسعة كان والدي يستخدمها لاستقبال الضيوف وتحتوي على مكتبة كبيرة. قضينا في هذا المنزل ثلاثًا أو أربع سنوات حتى عام 1932.

سبب الانتقال كان قرار والدي ببناء بيت جديد، وقد اشترى قطعة أرض في شارع طه لتحقيق هذا الهدف. تولى المهندس بدري، الذي كان معماريًا سوريًا خرّج من جامعة السوربون في فرنسا، تصميم البيت الجديد، الذي يشمل بيوتًا مشهورة مثل بيت محمد حديد وبيت كامل الجادرجي وبيوت أخرى.

في ذلك الوقت، كنت غير عالم بمعماريين آخرين في العراق. البداية كانت مع معماريين بريطانيين الذين دخلوا العراق مع الجيش البريطاني في بداية العشرينات. أما في الثلاثينيات، فقد كانت هناك مهندسين أجانب وليسوا معماريين.

قد يكون تفكير كامل الجادرجي كان تفكيرًا علميًا. كان والدي منظمًا في معيشته وحافظًا دقيقًا على الوثائق. كما كان يمتلك هواية التصوير. عندما انتقلنا إلى شارع طه، قام بتثبيت جهاز ميزان للحرارة في مدخل الدار، يُرصد التحوّلات المناخية في العراق من عام إلى عام.

كان البيت مقسمًا إلى قسمين، جزء خاص به يحتوي على حمام ومطبخ، وجزء خاص بالضيوف. كان والدي مهتمًا بتصميم المنزل وعلاقات الغرف من حيث الحركة والوظائف المعيشية. وفي حالات الشعائر والاحتفالات الدينية في المنزل، كان يتركها تجري إلا إذا كانت تؤثر على حياته المعيشية.

كان والدي يقدم لي إجابات علمية دقيقة عندما أسأله عن ظواهر معينة، يشرح لي المبادئ العلمية ويُقنعني. كان مهتمًا بالقضايا العلمية والأبحاث الأنثروبولوجية، حيث كان يشترك في مجلات أجنبية علمية واجتماعية باللغة الإنجليزية.

أثناء مراقبتي للتفاصيل التي كان يناقشها والدي مع الحرفيين عندما انتقلنا إلى بيت شارع طه، كنت ألتقي بالمعماري أحمد مختار إبراهيم، وهو أول معماري عراقي درس في إنجلترا وأول من أصبح معماريًا في العراق.

في ذلك الوقت، تعرفت على الطيار جواد حسين، الذي شارك في قصف بغداد في انقلاب 1936 وحُكم عليه بالسجن المؤبد. بعد حركة 1941 التي قادها رشيد عالي الكيلاني، طلب والدي العفو له، وتمت الموافقة على الطلب. بعد فشل الحركة وخوفًا من القبض عليه مرة أخرى، لجأ إلى منزلنا لفترة قصيرة. كنت أتحدث معه عن الموسيقى الغربية الكلاسيكية، وكان ملمًا بالأوبرا، وترك لي مجموعة من الأسطوانات للاستماع إلى الأوبرا الإيطالية.

كانت هذه هي المرة الأولى التي تعرضت فيها لسماع الأوبرا، بينما كنت سابقًا أستمع إلى السمفونيات تأثرًا بأصدقائي في شارع طه، خاصةً قحطان عوني الذي كان له تأثير كبير على اطلاعي على الحركات الفنية في أوروبا. في المقابل، لم يكن والدي مهتمًا كثيرًا بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية الغربية.

في فترة الأربعينيّات، استهليت قراءة الأدب العالمي من خلال الترجمات، وخاصة الترجمات العلميّة التي كانت تُصدر عن دار الترجمة والنشر في القاهرة. درس معماريو الجيل الأول في إنكلترا، ثم عادوا إلى العراق لممارسة مهنتهم في سياق المجتمع العراقي في تلك الفترة التي كان المجتمع يعيش مرحلة تأسيس الدولة، ويسعى نحو التحديث والابتعاد عن المجتمع العثماني التقليدي والديني. درست الرسم الهندسي في مكتب المعماري مدحت علي مظلوم وعملت معه على بعض كتب العمارة، وكذلك تعرفت على أعمال الشاعر الإنكليزي تي أس أليوت. كان منزلنا في شارع طه ناتجًا عن سلسلة من الصدف، حيث انتقلت العائلات إلى تلك المنطقة دون تخطيط مسبق، وتكوّن الشارع معبأً بالشباب الذين شغلتهم قضايا الحداثة والتنوّع الثقافي، مثل الأدب الإنكليزي والرسم الحديث والموسيقى.

تأثرنا بشخصيات مثل جواد سليم والقاص عبد الملك نوري، اللذين فتحوا لنا أفقًا للاطّلاع على الحركات الفنّيّة الحديثة في أوروبا. غبت عن العراق لمدة ست سنوات من 1946 إلى 1952، وعند عودتي، لاحظت تطوّرًا في الحياة الثقافيّة والفنيّة، ورغم بعض التقدم في هذا السياق، كنت أشعر بتصاعد الاستبداد والتوتر السياسي. على الجانب المهني، لاحظت تطوّرًا إيجابيًا في مجال العمارة، حيث بدأ الناس يتجهون نحو المعماريين لتصميم وإنشاء مبانيهم، وهو تطوّر قادته المعماريّون مثل مدحت علي مظلوم وجعفر علاوي ومحمّد مكّيّة.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *