“نوري باشا”.. احتلال وانقلابات في رحلة آخر رجال الملكية العراقية

“نوري باشا”.. احتلال وانقلابات في رحلة آخر رجال الملكية العراقية

“في صباح 14 يوليو/تموز من العام 1958 دقّ جرس الهاتف مبكرا، قمت فَزِعة من فراشي، فإذا زوجة السفير العراقي في لندن تفاجئني بخبر انقلاب عسكري في بغداد”.

كانت هذه الكلمات المرتعشة فاتحة مذكرات عصمت السعيد، وهي زوجة صباح الابن الوحيد لنوري السعيد، رجل العراق القوي في الحقبة الملكية. تلك المذكرات سوف تسطّر بحروف من الدم، حيث النهاية المأساوية للعائلة الهاشمية في العراق، وقد عرضتها الجزيرة الوثائقية في فيلم بعنوان “نوري باشا”.

“عندما رأيته أدركت أننا أمام شخصية ذات بأس ومرونة”

شاء القدر أن أسكن العراق في العهد الملكي منذ 1936، وهي السنة التي تزوجتُ فيها صباح، الابن الوحيد لنوري باشا والست نعيمة العسكري. وحتى العام 1958، حيث عايشتُ تطورات سياسية واجتماعية متعددة في بلاد الرافدين، فعزمت على تدوين ذكريات مهمة شاهدتها بنفسي أو علمت بحدوثها بالفعل، لتقديم صورة نوري السعيد، الإنسان والسياسي.

ولد نوري السعيد في بغداد في ديسمبر/ كانون الأول 1888، وفي الفترة بين 1930-1958 شكّل 14 وزارة في العراق، وكان تلقى تدريبه كضابط عثماني، وعمل في خدمة الملك فيصل في دمشق خلال فترة حكمه القصيرة، ثم عاد إلى بغداد.

كتبت عنه الباحثة البريطانية “غيرترولد بيل”، مستشارة المندوب السامي البريطاني: عندما رأيته أدركت أننا أمام شخصية ذات بأس ومرونة، فإما أن نستخدمها، أو ندخل في صراع شاقّ معها.

وقال عنه المؤرخ طارق حرب: ولد قريبا من حي الميدان في بغداد، والتحق بالكلية الحربية العثمانية شابا، وأصبح ضابطا في الجيش العثماني، ولكن فكره كان مرتبطا بالمتنورين، فالتحق بجماعة عزيز علي “العهد”، وصدر عليه حكم فهرب إلى البصرة، وعند دخول الإنجليز إلى العراق تمكنوا من القبض عليه، ولكنه تمكن من الهرب ثانية والتحق بالجيش العربي

وبحسب المؤرخ الدكتور مؤيد ونداوي فقد “استفادت بريطانيا مبكرا من انضمام بعض الضباط العرب لجمعية العهد، مثل نوري باشا وعبد العزيز المصري وغيرهم، وذلك مع انطلاق الثورة العربية، والتحق معه عديله جعفر باشا العسكري، والذي سيكون له دور مهم في الثورة العربية الكبرى”.

نوري السعيد.. رجل العرش المخلص يسعى للاستقلال

عند تأسيس مملكة العراق عام 1921، وإعلان فيصل الأول ملكا عليها، كان نوري السعيد من أهم شخصيات الرعيل الأول الذين رافقوا فيصل في سوريا، ومنذ تلك اللحظة أصبح نوري باشا رجل الدولة الهاشمية على مدى عدة عقود. يقول عنه د. على محافظة أستاذ التاريخ الحديث: كان مخلصا للعرش الهاشمي في سوريا، ثم في العراق بعد سقوط الملكية في سوريا.

وتقول تمارة داغستاني، ابنة معاون قائد الجيش في الفترة الملكية: عندما عدت إلى العراق في 2003، وجدت كل ما في البيت مسروقا، من أثاث وتحف، ولم يبق إلا بعض الصور والوثائق، وأنا ممتنة للصوص الذين تركوها، 8 آلاف صورة منذ العهد العثماني وحتى 1958، فعلاقتنا بالعائلة المالكة تأتي من جهة والدتي التي تربت مع الملكة عالية، زوجة الملك غازي وابنة الملك علي.

أما زينة السعيد، حفيدة الباشا فتقول: تعتبر السيدة تمارة أرشيفا حيا للعائلة المالكة وكذلك أسرة نوري السعيد خلال الفترة الفترة الملكية، فبالإضافة للكم الكبير من الصور والوثائق والمعلومات التي تمتلكها، فقد عاشت هي بنفسها في البلاط الملكي وعايشت أسرة الباشا.

وقع اختيار الملك فيصل الأول على نوري السعيد كرئيس للحكومة لأول مرة في مارس/ آذار 1930، بهدف المطالبة باستقلال العراق في المحافل الدولية، ونجح السعيد في مساعيه عام 1932 بتوقيع معاهدة استقلال العراق وفق شروط بريطانية، وهو أمر لم يعجب الجماهير الذين رأوا في الشروط إجحافا بحق العراق.

اندفاع القومية ودبلوماسية المصالح.. صراع متأجج

في 3 أكتوبر/ تشرين أول 1932 أصبح العراق الدوله الـ57 في عصبة الأمم، يومها اشترطت عصبة الأمم أن تكون بريطانيا دولة انتداب على العراق، وهو الأمر الذي مكّن لها السيطرة على ثروات العراق ونفطه، وضمن لها وجودا عسكريا على أراضيه. بعدها حاول الملك جمع أقطاب السياسة العراقية على بناء البلد ونهضته، لكن الصراع بين مؤيدي المعاهدة ومعارضيها تأجج بعد الوفاة المبكرة للملك في 1933.

يقول د. فاضل البدراني، أستاذ الإعلام في الجامعة العراقية: جاء غازي، وكان شخصية قومية ووطنية ورافضا لسياسة الإنجليز في بلاده، ولا تتوافق توجهاته مع الإنجليز ورَجُلِهم نوري السعيد.

بينما تعقد تمارة داغستاني مقارنة بين الملكين، فتقول: الملك فيصل شخصية عاقلة رزينة ومسؤولة، ويفكر في عواقب الأمور، أما غازي فقد كان شابا مندفعا قوميا عربيا يكره الإنجليز، ولذلك أحبته الجماهير العراقية.

“جماعة الأهالي”.. أول انقلاب عسكري في العالم العربي

في 29 أكتوبر/تشرين أول 1936 أفاق العراق على أول انقلاب عسكري في العالم العربي، بقيادة الضابط بكر صدقي، وأسقطت حكومة ياسين الهاشمي وأُبعد عن البلاد، وقُتل وزير الدفاع جعفر العسكري. وأصبح صدقي رئيس هيئة أركان الجيش.

يقول د. علي محافظة أستاذ التاريخ الحديث عن قائد الانقلاب: ينتمي بكر صدقي إلى “جماعة الأهالي”، وهي حركة يسارية مناهضة للقومية العربية وتتمسك بوحدة العراق، وهي خليط من الأكراد والتركمان وقوميات أخرى.

ويروي مصطفى حفيد جعفر العسكري: توجه جدّي جعفر بنفسه إلى معسكر بكر صدقي في بعقوبة، أملا في إقناعه بالعدول عن الانقلاب، وكان يعلم بحتمية قتله، خصوصا بعد أن أوقفه كمين قبل دخوله المعسكر، واقتاده الجنود باتجاه آخر وقاموا بتصفيته.

على إثر الانقلاب طلب غازي من ابن عمه عبد الإله ونوري السعيد مغادرة البلاد حفاظا على سلامتهما، إلى حين تصفية بكر صدقي وإسقاط حكوماته المتعاقبة في 1938، فطلب الملك من نوري السعيد العودة إلى العراق وتشكيل حكومته الثالثة. وفي هذه اللحظة التاريخية أصبح نوري السعيد الرجل الأول المهيمن على الساحة السياسية في العراق.

وفاة الملك غازي.. خبر هيّج الجماهير وأودى بالقنصل البريطاني

دشّن نوري حوارا مع البريطانيين حول الملك غازي، فهو لم يكن مقتنعا بتصرفات غازي، سواء على المستوى الشخصي أو إدارته للبلاد، فغازي كان يتصرف باندفاع قومي، يتقرب من ضباط الجيش، ويهاجم البريطانيين والحركة الصهيونية في فلسطين، وهذا كله ضد سياسة بريطانيا في المنطقة، وكان نوري يخشى على المكاسب التي حققها في طريق الاستقلال التام لبلاده.

في أبريل/ نيسان 1939 اهتز العراق لنبأ وفاة الملك غازي، وظن كثيرون أن حادث موته كان مدبَّرا، فهاجت الجماهير وقتلت القنصل البريطاني، وظلّ صدى المؤامرة سائدا، حتى أثبتت التحقيقات أن موته كان نتيجة السرعة. تقول تمارة داغستاني: كان الناس يظنون أن الأمير عبد الإله ونوري السعيد والإنجليز هم الذين تآمروا على تدبير الحادث، لكن تبيّن أنها مجرد سرعة زائدة، وهذا ما أكده لي الدكتور كمال السامرائي لاحقا.

يوم مقتل والده، لم يكن الأمير فيصل الثاني قد أتم أربع سنوات، وبناء على شهادة الملكة عالية زوجة غازي، فقد أوصى الملك الراحل أن يكون أخوها الأمير عبد الإله وصيا على العرش، وهو الأمر الذي خوّل له أن يكلف نوري السعيد بتشكيل حكومته الرابعة.

ثورة الكيلاني.. دعوة القومية العربية ومناوأة الإنجليز

جلبت الحرب العالمية استقطابا شديدا للعراق، فمعسكرٌ يميل إلى بريطانيا والحلفاء، يمثله عبد الإله ونوري السعيد وكثير من ضباط الجيش، ومعسكرٌ آخر يميل إلى ألمانيا والمحور، ويمثله الأمير زيد بن الحسين الذي كان أولى بالوصاية على العرش حسب كثيرين. وبعد أقل من 3 سنوات من عودة نوري إلى العراق، كُتب عليه الاغتراب مرة أخرى، فقد قام رشيد عالي الكيلاني بانقلابه المشهور، ولجأ نوري السعيد إلى الأردن.

جاء انقلاب الكيلاني في أبريل/نيسان 1941، بعد أن أقال عبدُ الإله حكومتَه وعيّن طه العجمي بدلا منه، فجاءت ثورة الكيلاني بالتعاون مع العقداء الأربعة فهمي سعيد وصلاح الدين الصباغ ومحمود سلمان وكامل شبيب، فضغط على طه العجمي ليستقيل عبر الإذاعة، وخلع عبد الإله ونادى بالشريف شرف وصيا على العرش. ونادى الكيلاني بالقومية العربية والنأي عن السياسة الإنجليزية في البلاد.

وبعد ستة شهور استطاع نوري السعيد إسقاط ثورة الكيلاني، والعودة إلى العراق بصحبة عبد الإله وباقي أفراد حكومته، وقام بتشكيل حكومته السادسة. وبهذا عاد العراق أحادي القطب مع بريطانيا، واختفت جميع أشكال المعارضة، القومية منها واليسارية.

ومنذ ذلك التاريخ وحتى 1958 كان نوري السعيد هو المهيمن على السياسية العراقية، فإما أن يكون هو رئيس الحكومة، أو أن يختار الوزراءَ ورئيسَ الحكومة بنفسه، ثم يذهب للاستجمام في لندن أو باريس أو فلسطين أو القاهرة.

حلف بغداد.. خلاص من المعاهدة وحملة إعلامية مضادة

تستعرض تمارة داغستاني صور نوري السعيد والعائلة المالكة قائلة: أتذكره بهذه الصورة، له عينان زرقاوان حادّتان، ينظر إلى محدِّثه ويهتم بكلامه، صغيرا كان أم كبيرا. كنتُ طفلة آنذاك وكان يعطيني كل اهتمامه عندما أتحدث إليه، كان مرحا والبسمة لا تفارق شفتيه، وله ضحكة مجلجلة تخرج من أعماق قلبه.

وعن مآثر الباشا يقول البدراني: مجلس الإعمار واحد من المؤسسات الإستراتيجية التي ساهمت في بناء العراق حتى يومنا هذا، تأسس في بداية الخمسينيات، وكان نوري السعيد هو المعني الأول بالتفاهم مع المؤسسات الاستشارية العراقية والجانب البريطاني، ومن المشاريع جامعة بغداد، ومشاريع الري والسدود والجسور، ومشاريع النفط والتربية والتعليم.

شهدت حقبة الخمسينيات تغيرات جوهرية في المنطقة، بدأت بانقلاب عبد الناصر في مصر، وأصبحت الجماهير تنادي بالوحدة والاستقلال التام، والتخلص من المعاهدات التي تربطها بالمستعمرين، وفي هذا السياق جاء “حلف بغداد” عام 1955، بمشاركة إيران وتركيا وباكستان وبريطانيا، لإيجاد صيغة جديدة للعلاقة مع الإنجليز، ومن خلاله استطاع نوري إلغاء معاهدة 1930 الثنائية.

كان هدف الحلف الأساسي وقف المد الشيوعي في المنطقة، ولكنّه فجّر صراعا عربيا داخليا، وبدأ الإعلام المصري يحرض العراقيين على الثورة والتخلص من نوري السعيد، حتى وصل حد التحريض على القتل، ثم جاء العدوان الثلاثي على مصر بقيادة بريطانيا، وهنا انكشفت جبهة توري السعيد أمام الجماهير العراقية.

قصر الرحاب.. مذبحة أودت بالعائلة الحاكمة

“في صباح 14 يوليو/تموز دقّ جرس الهاتف مبكرا، قمت فزعة من فراشي، فإذا زوجة السفير العراقي في لندن تفاجئني بخبر انقلاب عسكري في بغداد، أصابني الرعب، لكني تذكرت أن عبد الإله ونوري السعيد كانا على سفر في ذلك اليوم، وأصبح كل أملي أن الطائرة أقلعت بهما قبل الانقلاب، فقد كان الجميع متهيئين للسفر إلى إسطنبول من أجل ترتيبات زواج الملك فيصل الثاني”.

تقول تمارة داغستاني: كان ينبغي أن أبيت في القصر تلك الليلة، ولكن والدتي رجت الأميرة أن أبيت عندها، وهكذا كان، وفي الصباح الباكر أيقظتنا خالتي على وقع أنباء في الإذاعة بحصول انقلاب.

علم نوري السعيد أن عبد الكريم قاسم بدأ بتنفيذ انقلاب عسكري، وأنه أرسل فرقة بقيادة الضابط عبد السلام عارف لمحاصرة قصر الرحاب، وأن هنالك فرقة قادمة إلى بيته للقبض عليه.

تقول تمارة: أخرجت العائلة المالكة جميعا إلى باحة القصر، وأوقفوا حول النافورة، وبحسب رواية عبد الستار العبوسي من الفرقة التي احتلت القصر، فقد سمع صوت عيار ناري، مما أدى إلى ارتباكه وخروجه عن السيطرة، فقام بإطلاق النار من رشاشه باتجاه العائلة المالكة فقتلهم جميعا.

تأكد مقتل عبد الإله وصي العرش، والملك فيصل الثاني، لكن يبدو أن نوري السعيد قد تمكن من الفرار، أو أنه لم يكن موجودا في القصر ذلك الصباح، والأكيد أنه أصبح يتنقل بين عدة أماكن في بغداد دون خطة واضحة للهرب، وعنما وصل بيت البصّام، سمع من المذياع نبأ المجزرة التي أودت بأفراد العائلة المالكة جميعهم.

“لم ير العراق خيرا بعد ذلك اليوم”

رصدت مكافأة 10 آلاف دينار لمن يرشد إلى نوري السعيد، وفرحت الجماهير بالثورة ونبأ القضاء على الملكية، وتوجهوا إلى قصر الرحاب، وأخذوا جثة عبد الإله وسحلوه في شوارع بغداد وقطّعوا أوصاله.

وقتل في ذلك اليوم الدامي صباح بن نوري السعيد، بينما كان يبحث عن جثة والده الذي لم يقتل بعد، وغادر نوري بيت البصام حفاظا على أمنهم، وخرج متخفيا بزيّ امرأة، لكن بعض الشرطة تعرفوا عليه في منطقة البتّاوين في بغداد، وقتلوه على الفور، ثم سُحل في شوارع بغداد.

يقول الباحث جاسم الموسوي: لم يكن عبد الكريم قاسم يرغب في حصول هذه المجزرة، وقد حصلت كل هذه التجاوزات بغير علمه، والدليل أنه ذهب يتبرع بدمه لإنقاذ حياة الأمير.

ولم يرد نوري السعيد الإمساك به حيا، بعد أن عرف مصير عبد الإله، فقام بإطلاق النار على نفسه في صبيحة اليوم الثاني لمذبحة الرحاب، وقد مُثّل بجثته وجثة ابنه صباح، ثم سُحلا وصُلبا. وتختم تمارة الداغستاني ذكرياتها بعيون دامعة: لم ير العراق خيرا بعد ذلك اليوم، فما بُني على دم الأبرياء يبقى داميا خرابا.

وقتل في ذلك اليوم الدامي صباح بن نوري السعيد، بينما كان يبحث عن جثة والده الذي لم يقتل بعد، وغادر نوري بيت البصام حفاظا على أمنهم، وخرج متخفيا بزيّ امرأه، لكن بعض الشرطة تعرفوا عليه في منطقة البتّاوين في بغداد، وقتلوه على الفور، وتم سحله في شوارع بغداد.

يقول الباحث جاسم الموسوي: “لم يكن عبد الكريم قاسم يرغب في حصول هذه المجزرة، وقد حصلت كل هذه التجاوزات بغير علمه، والدليل أنه ذهب يتبرع بدمه لإنقاذ حياة الأمير”.

لم يرد نوري السعيد أن يتم الإمساك به حيا، بعد أن عرف مصير عبد الإله، فقام بإطلاق النار على نفسه في صبيحة اليوم الثاني لمذبحة الرحاب، وتم التمثيل بجثتي نوري وابنه صباح، وسحلهما ثم صلبهما”.

وتختم تمارة الداغستاني ذكرياتها بعيون دامعة: “لم ير العراق خيرا بعد ذلك اليوم، فما بُني على دم الأبرياء يبقى داميا خرابا”.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *