وُلِد ناظم الغزالي (1921-1963) في منطقة الحيدرخانة في بغداد يتيما ذا أم ضريرة، واستطاع بصعوبة بالغة استكمال دراسته الابتدائية والمتوسطة في المدرسة المأمونية، وبعد تردد طويل التحق بقسم المسرح في معهد الفنون الجميلة، ليحتضنه فيه حقي الشبلي نجم المسرح وقتها، حين رأى فيه ممثلا واعدا يمتلك القدرة على أن يكون نجما مسرحيا، لكن الظروف المادية القاسية التي جعلته يتردد كثيرا في الالتحاق بالمعهد أبعدته عنه، فعمل مراقبا في مشروع الطحين بأمانة العاصمة.
أبعدته الظروف عن المعهد، لكنها لم تمنعه من الاستمرار في قراءة كل ما تقع عليه يداه، والاستماع إلى المقام العراقي المعروف بسلمه الموسيقي العربي الأصيل، كما كان يستمع أيضا إلى أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان وليلى مراد ونجاة علي، وكانت أغنياتهم وقتها تملأ الأسماع في مُناخ كان يدعو كلا منهم إلى الاجتهاد والإجادة لإمتاع متذوقي الطرب، ولجعل ناظم يتعلق أكثر فأكثر بالغناء، ويحفظ أغنياتهم عن ظهر قلب، حت اكتشف ومعه المحيطون به أن هناك موهبة غنائية فذة في حنجرة مراقب مشروع الطحين.
اكتسب ناظم الغزالي في هذه الفترة طموحا غير محدود، وعنادا وإصرارا على إكمال الطريق الذي اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية التي واجهته، وجعلته حين يعود للمعهد يبذل قصارى جهده لينال أعلى الدرجات.
أمّا قراءاته فجعلته يمتاز عن زملائه بثقافته التي ظهرت عام 1952، حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة “النديم” تحت عنوان “أشهر المغنين العرب”، وظهرت أيضا في كتابه “طبقات العازفين والموسيقيين من سنة 1900 إلى 1962″، ويستهله بالحديث عن بعض أولئك، أمثال خضر إلياس ورضا علي وناظم نعيم ومحمد القبانجي وآخرين.
ويقال إنه حين تُوفّي كان في مكتبته 20 شريطا سجل عليها أغنياته كافة، إضافة إلى أغنيات المرحومة سليمة مراد. وهناك شريط آخر سجّل عليه بعض أغنياته وأغنيات سليمة أثناء التمارين في بيتهما. وفي مكتبته أيضا كرّاس كبير دوّن فيه الأغنيات التي أدتها جميع المطربات العراقيات خلال أربعين عاما بين 1910-1950، وفهرس لأغاني أستاذه محمد القبانجي، وفيه نصوص لـ64 أغنية، مع ذكر السنة التي سُجلت فيها تلك الأغاني على الأسطوانات.
وفي دفتر آخر دوَّن عناوين أشهر المخطوطات العربية في علم الموسيقى والغناء، تلك الموجودة في محتويات مكتبة المتحف العراقي مع ذكر أرقامها، وبعض الملاحظات حول كل مخطوط. وفي الصفحة 77 كتب الأغنيات التي أدّاها الجالغي البغدادي على مدى سبعين عاما (من 1870-1940). مع معلومات تشير إلى عدد الذين أدوا كل أغنية، وما كان منها مسجلا على الأسطوانات. وفي سجل كبير آخر نجد الغزالي كتب المقامات العراقية المؤدّاة والطبقة وطريقة الغناء، كما دوَّن كل أغاني سليمة مراد، وهناك صفحات بخط يده دوّن فيها تاريخ الديالوج في الغناء العراقي.
كما ميّزه حفظه السريع وتقليده كل الأصوات والشخصيات، فضلا عن بديهته الحاضرة ونكتته السريعة، وأناقته الشديدة حتى في الأيام التي كان يعاني فيها الفقر المدقع.
عاد ناظم الغزالي إلى معهد الفنون الجميلة لإكمال دراسته، ليأخذ حقي الشبلي بيده ثانية ويضمه إلى فرقة “الزبانية”، ويُشركه في مسرحية “مجنون ليلى” لأمير الشعراء أحمد شوقي في عام 1942، وغنّى فيها أنشودة الحادي “مَن يقود الجِمال في القافلة” من ألحانه، ليترجم من خلالها نبوغا مبكرا في إدراك معاني الشعر وارتباط الغناء بالمشهد الدرامي من مقام الهزام، ويطلق عليه في العراق مقام الركباني.
حوَّل ناظم إثر هذه الأغنية اتجاهه تاركا التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، وذلك وسط دهشة المحيطين به الذين لم يروا ما يبرر هذا القرار، خاصة أن ناظم كان يغني في أدواره المسرحية، إلا أن وجهة نظره كانت أنَّه لكي يثبت وجوده كمطرب، فإنه لا بد أنْ يتفرغ تماما للغناء.
في البدايات قدم أغنية “زهور الضفاف” مقلدا المطربة المصرية آمال حسين بلحن رياض السنباطي، لكن الغزالي لم يستسلم لعدم النجاح، واتجه نحو صقل قدرته الصوتية بغناء المقام، وأخذ يستمد منه ما هو مناسب لصوته، وأخذ يتابع وصلات المولد النبوي الشريف بصوت محمد القبانجي ويوسف عمر، فأكسبه ذلك مهارة في قوة الأداء، بخصوصية تختلف عن ما قدمه السالفون من المطربين، فقد أتقن المقامات الفرعية كالراشدي والحديدي والأورفه. وقد قدمه القبانجي بمقام الراشدي من خلال الإذاعة في أغنية “على جسر المسيب” التي نالت استحسان المسؤولين والقبانجي نفسه.
تقدّم ناظم الغزالي إلى اختبار الإذاعة والتلفزيون، وبين عامَي 1947-1948 انضم إلى فرقة الموشحات التي كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي الدرويش، وتضم عددا كبيرا من المطربات والمطربين.
كان صوته يعتبر من الأصوات الرجولية الحادة “التينور الدرامي”، وهو الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية، أما مجاله الصوتي فيراوح بين أوكتاف ونصف إلى أوكتافين، والأوكتاف أو الديوان بالعربية يتضمن ثماني نوتات أو درجات، وتنحصر حلاوة الأماكن في صوت الغزالي بين النصف الأول والثاني من الأوكتافين.
بهذا الشكل تكون مساحة صوت ناظم قد زادت على 14 درجة في السلم الموسيقي، ومع انفتاح حنجرته كانت قدرته غير عادية على إجادة الموال وتوصيل النوتات بوضوح، إضافة إلى ذلك كله فقد ساعدته دراسته للتمثيل على إجادة فن الشهيق والزفير في الأوقات الملائمة.
أجاد ناظم الغزالي الموّال باعتراف النقاد وكبار الموسيقيين الذين عاصروه، وما كان يميزه في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها، إضافة إلى انفتاح حنجرته وصفائها، وكذلك جوابه المتين وقراره الجيد في مختلف ألوان المقامات وأنواعها.
لم يعتمد الغزالي على الشعر المتوارث منذ أكثر من ألف عام من عمر المقامات العراقية، بل فور ظهوره كان قد حسم أمر تجديد مفاصل المقام وأخذ منه خلاصته، وأظهره قريبا من المستمع في كل الوطن العربي.
لم يأبه لكل منتقديه المحافظين على شكل المقام التقليدي وعدم المساس به، فقد اختصر كثيرا في المقام، واختار قصائد عربية جميلة لأهم الشعراء الكبار، وصنع فرقة موسيقية جديدة، وجمع ملحنين كبارا وشعراء معاصرين أيضا لكتابة الأغاني التي تُغنى بعد المقام وتسمى بستة، ولأول مرة أيضا تصاحب مغني المقام مجموعة كورال، وكانت جيدة جدا. اهتم بصورة الفرقة وديكور الإستوديو والمسرح الذي يظهر عليه، وكان يدفع تكاليف كل ذلك لحرصه الشديد وحبه لعمله.
استقبل الجمهور أغانيه الأولى بانسجام نفسي تام، خاصة حين غنى “وين ألقى اللي ضاع مني، وين ألقاك وأنا المضيع ذهب”، وقد كتب كلماتها إبراهيم الأمين ولحنها وديع خوندة (سمير بغدادي).
غنى ناظم الغزالي أول أغنية إذاعية جرى فيها التوزيع الهارموني موسيقيا، وهي أغنية “مروا عليّ الحلوين ما ودعوني”، وقد لحنها له ناظم نعيم الذي قدم للغزالي أكثر من 15 لحنا من أغانيه الشهيرة، ثم تناوب على تقديم الألحان له كبار الموسيقيين، في مقدمتهم جميل بشير الأخ الأكبر للموسيقي منير بشير.
وقد اختص فيما بعد لنفسه بتلحين أغانيه، فقدم أغاني ذات حرفة موسيقية جيدة، وإذا كان ناظم الغزالي قد أخذ أشعار معظم أغانيه من الشاعر المعروف جبوري النجار، فإنه أخذ أيضا من التراث الشعري الغنائي العربي، فقدم منه أجمل أغانيه التي اشتهرت في الوطن العربي، مثل “عيّرتني بالشيب وهو وقار.. ليتها عيرت بما هو عار”، و”أقول وقد ناحت بقربي حمامة.. أيا جارتا لو تشعرين بحالي”. مثلما أخذ من التراث العراقي وغنى للموصلي وغيره.
في فترة أواخر الأربعينيات وبداية الخمسينيات شهدت بغداد محاولات للإنتاج السينمائي تكللت بالنجاح فيما بعد بإنتاج عدة أفلام، منها “القاهرة بغداد” و”الحارس” وغيرهما. وكان ناظم الغزالي في شكله وصوته ومواهبه معرضا للإغواء السينمائي، فكان منتجو تلك الأفلام يجدون فيه الشخصية المناسبة لأفلامهم، خصوصا حين كان الغزالي يجمع موهبتي التمثيل والغناء.
استجاب الغزالي وانتقل إلى السينما يمثل ويغني في أفلام عراقية تقلد أفلام الاستعراضات المصرية واللبنانية، مثل “يا سلام على الحب”، و”القاهرة بغداد”. لقد كانت تجربة فنية عابرة في حياة ناظم الغزالي الفنية لم تُضِف إليه شيئا.
لم ينتهِ عام 1948 حتى سافر ناظم الغزالي للمرة الأولى خارج العراق، وكانت فلسطين أولى محطاته، إذ ذهب مع الوفد الفني للدعم المعنوي وشحذ همة الجيش العراقي والجيوش العربية الموجودة في فلسطين لمحاربة إسرائيل، والتقى هناك مع عبد السلام عارف الذي أصبح لاحقا رئيسا للجمهورية العراقية بعد انقلاب عام 1963، وقد تمتنت علاقة الصداقة بينهما بسبب حُبّ عبد السلام لفن الغزالي والمقام العراقي عامة، وأخذا يلتقيان في فترات متباعدة لم تنقطع حتى بعد توليه رئاسة الجمهورية.
فتح ناظم صفحة جديدة مشرقة في حياته الغنائية، فتتلمذ على يد أستاذه محمد القبانجي فيما يخص المقام العراقي وأصول غنائه، وتتلمذ على يد الموسيقار روحي الخماش في دراسة العود، وعلى يد جميل سليم في دراسة “الصولفيج”، وتعلم النوتة الموسيقية وتدوين ما أمكن تدوينه من الأغاني التراثية التي أصبح فيما بعد حارسها الأمين.
منذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات الغزالي تعبر الحدود، فسافر إلى عدة دول، وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية، وأصبح سفيرا للأغنية العراقية. وبداية الخمسينيات هي الفترة التي شهدت تطورا وربما انقلابا ملحوظا في غالبية مقاييس الغناء في العراق ومواصفاته، وبدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنيات ناظم التي نفاجأ اليوم حين نسمعها بوجود لوازم موسيقية ضمن توزيع موسيقي تتعدد فيه الآلات الغربية والشرقية.
ببساطة، لقد قَلَبَ الغزالي غالبية مقاييس الغناء في العراق.
عند سماعنا أغاني ناظم الغزالي نجد لوازم موسيقية مشغولة تتضمن توزيعا موسيقيا مع تعدد الآلات الموسيقية وإدخال بعض الآلات الغربية، وكذلك غنى لأشهر الشعراء العرب مثل إيليا أبو ماضي وأحمد شوقي وأبي فراس الحمداني.
لقد غنى لأبي فراس الحمداني “أقول وقد ناحت بقربي حمامة”، ولأحمد شوقي “شيّعت أحلامي بقلب باكٍ”، وللبهاء زهير “يا من لعبت به شمول”، ولإيليا أبي ماضي “أي شيء في العيد أهدي إليك”، وللمتنبي “يا أعدل الناس”، وللعباس بن الأحنف “يا أيها الرجل المُعذِّب نفسه”، ولغيرهم من كبار الشعراء العرب.
ولولا وفاته المبكرة ربما لم يكن ليترك كلمة في عيون تراث الشعر العربي إلّا وغناها وأمتعنا بها.
هكذا أخرجَ الغزالي القصائد من دواوينها وجعلها تجري على ألسنة أبسط الناس الذين أحبّوا كلماتها، وأحبوا الصوت الذي نقلها إلى آذانهم بنبرة الشجن الشائعة في الأصوات العراقية، وإن زاد عليها نبرة أكثر حزنا بأدائه الدرامي الذي اختلطت فيه الحياة القاسية التي عاشها، وما درسه بمعهد الفنون الجميلة.
في منتصف الخمسينيات وبعد انتشار الحفلات الغنائية الحيّة بدأت ظاهرة تسجيل الأغاني على أسطوانات حجرية تنتشر في العراق ومنطقة الخليج العربي والجزيرة العربية، وقامت شركة “جقمقجي” بتسجيل أغانٍ لكبار الفنانين العراقيين، وكان على رأسهم ناظم الغزالي.
تميزت هذه الفترة باختيارات الغزالي الدقيقة لأغانيه ولأعضاء فرقته الموسيقية وفرقة الكورس منسجمة الأصوات، إلى جانب تعامله مع الملحنين والشعراء في الساحة الفنية العراقية، وظهرت أول مجموعة من هذه الأغاني في أسطوانات، وكانت هذه هي الأعمال التي قدمها في الحفلات والأمسيات الغنائية، مثل “طالعة من بيت أبوها”، و”ما أريده الغلوبي”، و”يا أم العيون السود”، وغيرها من الأعمال الجميلة، وكان يشرف على توزيعها الموسيقي جميل بشير.
بهذه الأعمال وغيرها من المقامات العراقية التي اشتهر بها ناظم الغزالي بلغت شهرته الآفاق العربية، وقدمت شهادات بقدرته الغنائية والأدائية من قبل عمالقة الغناء، ولم يتوانَ موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في الإعراب عن رغبته في التلحين لناظم الغزالي، ووقع الاتفاق على ذلك في صيف 1961، غير أن فرحته لم تكتمل، ووافاه الأجل قبل أن يتم هذا المشروع الكبير.