ميزانية 2023 في العراق: برنامج اقتصادي أم صراع على الثروات؟

ميزانية 2023 في العراق: برنامج اقتصادي أم صراع على الثروات؟

بعد مرور شهر على تمرير ميزانية العراق الجديدة، ما زالت موجة واسعة من الانتقادات والتحذيرات من التداعيات والآثار السلبية للميزانية على اقتصاد البلاد تتوالى من قبل السياسيين وخبراء الاقتصاد والمنظمات الاجتماعية.

وأقر البرلمان ميزانية السنوات 2023 و2024 و2025 التي توصف بانها موازنة ثلاثية تاريخية على مستويات الانفاق والايرادات والعجز المالي، بعد معركة ماراثونية لفترة زادت عن الستة أشهر من النقاش والصراع والمساومات من قبل أحزاب السلطة في الحكومة والبرلمان حول توزيع موارد الدولة بما يخدم مصالح الأحزاب أكثر مما يخدم مصالح المجتمع واحتياجاته.

وبخلاف كل ميزانيات العالم خرجت نقاشات طويلة مواد الميزانية في العراق عن كونها مشروعا اقتصاديا لصرف الأموال والواردات على مصاريف الحكومة والوزارات والمحافظات، لتصبح معركة يحاول فيها كل حزب متنفذ الاستحواذ على أكبر حصة ممكنة من الأموال المخصصة للمشاريع أو الإنفاق الحكومي ضمن الوزارات التي تم تقاسمها بين أحزاب السلطة وفق مبدأ المحاصصة السياسية والطائفية والقومية.
ولا شك أن أسباب الخلافات تعود إلى الأموال الضخمة المخصصة للميزانية، البالغة 134 تريليونا و552 مليارا و919 مليونا و63 ألف دينار (نحو 103 مليارات دولار). وباحتساب إيرادات تخمينية من تصدير النفط الخام بسعر 70 دولارا للبرميل الواحد، وبمعدل تصدير ثلاثة ملايين و500 ألف برميل يومياً، بضمنها 400 ألف برميل يومياً من نفط إقليم كردستان، على أساس سعر صرف للدولار يعادل 1300 دينار للدولار الواحد. وقدرت نسبة العجز في الميزانية بنحو 40 مليار دولار.
ولم تحض ميزانية في العراق منذ 2003 بهذا القدر من الانتقادات، بسبب سوء توزيع الموارد والتحذيرات من السلبيات التي ستتركها على الأوضاع الاقتصادية للبلد.
ولعل خير وصف للميزانية الجديدة، جاء من القيادي في الحزب الديمقراطي الكردستاني هوشيار زيباري، الذي وصف على حسابه في تويتر، الموازنة العامة للأعوام 2023و2024 و2025 بأنها «عرجاء وكارثية على اقتصاد البلد» محذراً من تداعياتها في التضخم واهتزاز سوق العملة وفشل إدارة الأموال. مضيفا أنها «غير واقعية للكتل السياسية المستفيدة من الفساد».
فيما أكد النائب كاظم الفياض، في بيان، أن «الموازنة مبهمة وفيها الكثير من القوانين والصلاحيات غير المدروسة وبعض فقراتها تشمل ديونا خارجية وإرضاء مكونات على حساب غيرها من الشعب واستثمارات وتعاقدات تصب في جيوب الفاسدين الكبار». ودعا الفياض الشعب إلى «المساندة بكل قوة للمطالبة بحقوقكم التي ستبتلعها حيتان الفساد وأحزاب الفشل والدمار والتي لو مضت الموازنة بشكلها الحالي فإن أكبر الخاسرين هو الشعب ومؤسساته المدنية والعسكرية».
أما رئيس كتلة «امتداد» النيابية المعارضة النائب، حيدر السلامي، فإنه أكد أن هناك الكثير من الملاحظات والخلافات على العديد من فقرات قانون الموازنة، مشيرا إلى أن «بعض الكتل تبحث عن مصالحها الحزبية بعيداً عن المصلحة العامة ومصالح الشعب».
إلا أن أبرز الانتقادات والتحذيرات، تركزت حول نسبة العجز الكبيرة في الميزانية التي ستزيد تكبيل العراق بالديون. وفيما وصف عضو مجلس النواب محمد الشمري «عجز موازنة الثلاثية لعام 2023 بالمقلق والمثير للاستغراب» فقد حذرت الخبيرة الاقتصادية سلام سميسم، في تصريحات ولقاءات متلفزة عديدة، من «وقوع العراق في فخ الديون الخارجية التي ستترتب على البلد، وان إقرار الموازنة لثلاث سنوات متتالية سيفضي بتكرار العجز المالي على العراق وسيزيد الأعباء على الاقتصاد». وقالت سميسم إن «الاستمرار في عدم السعي لتخفيض عجز الموازنة سيساهم في تفاقم الديون الخارجية لثلاث سنوات متتالية» لافتة إلى ان «تمرير نسبة العجز بـ 63 في المئة في الموازنة يعني ان حجم الإنفاق سيفتقد الجدوى الاقتصادية».
أما أشد الانتقادات لمواد الميزانية فقد ركز المراقبون والسياسيون على الفضيحة الكبرى في المادة 16 المتعلقة بإطفاء الديون والقروض، عندما أخذت شخصيات وأحزاب متنفذة، قروضا ضخمة من الدولة ثم قامت الآن بإطفائها بقرار برلماني تسبب بخسارة هائلة للمال العام، قدرها بعض الخبراء بحوالي 200 مليار دولار، مؤكدين ان منح تلك القروض للقوى السياسية والشخصيات المتنفذة لم يكن يستند إلى القوانين، وأغلبها بحجة إقامة مشاريع وهمية في الزراعة والصناعة والتجارة وغيرها، وبالتالي فقد اعتبروها فضيحة القرن في الفساد ودليلا على تواطؤ القوى السياسية لاقتسام ثروات البلد.
وضمن التوقعات بارتفاع الأسعار، فقد أشار المراقبون إلى المادة 42 من قانون الموازنة، التي تضمنت فرض ضريبة على أسعار المشتقات النفطية تتحملها شركات المصافي، حيث كشف النائب مصطفى سند، ان فرض الضرائب على شركات توزيع وتصفية المشتقات سيؤدي إلى خسارة هذه الشركات ليستمر الاعتماد على البنزين المستورد، ولتستمر عقود الاستيراد مع الشركات الإمارتية والكورية والروسية والتي تصل قيمتها السنوية 5 مليار دولار. وحول الآمال بزيادة رواتب الموظفين والمتقاعدين، أكد سند في منشور على صفحته في تلغرام: «لا وجود للفقراء بجدول أعمال الميزانية».
ولم يكن بعيدا عن الموضوع وصف أمين عام تحالف «اقتصاديون» عدي العلوي موازنة 2023 بأنها من أكبر الأخطاء في تاريخ الاقتصاد العراقي، بسبب تضخم أعداد الموظفين الحكوميين. وأوضح العلوي في تصريح متلفز، أن موازنة 2023 تحتوي على مليون ونصف المليون عنصر في الأجهزة الأمنية من أصل 40 مليون مواطن، وهذا مؤشر سلبي في الأداء الحكومي وعسكرة المجتمع، مشيرا إلى ان نسبة المنتسبين من الأجهزة الأمنية بالنسبة إلى بقية الموظفين 39 في المئة. وأضاف العلوي «ان رواتب الحكومة العراقية بلغت 92 ترليون دينار سنويا وهذا الرقم سيخلق تضخما كبيرا وتراجع القطاع الخاص العراقي نتيجة تهافت الجميع على الوظيفة الحكومية».
ويبدو ان نقاشات الميزانية والصراع على المنافع، ساهم بتعميق الخلافات الشيعية الكردية والكردية الكردية، حيث برزت تداعيات إقرار قانون الموازنة على مواقف حكومة أربيل التي أعلنت أن «موازنة بغداد لم تنصف كردستان» وذلك بعد تحديد استحقاقات الإقليم بنسبة 12.67 في المئة من الموازنة.
وعقب تصويت مجلس النواب، لأول مرة منذ 18 عاماً على المادة 14 الخاصة بحصر إيرادات النفط في إقليم كردستان بالسلطة الاتحادية في بغداد، شنت حكومة أربيل حملة تهديد وتخوين ضد القوى الشيعية وحتى ضد غريمها الاتحاد الوطني الكردستاني. فبعد تهديد مسعود بارزاني بالموت لكل من يمس مصالح الإقليم ووصف خصومه الأكراد بالخونة لوقوفهم مع القوى الشيعية ضده، وجه رئيس حكومة إقليم كردستان، مسرور بارزاني، رسالة شديدة اللهجة، ضد السلطات والأحزاب في العاصمة بغداد، أكد فيها «أن العملية السياسية تنحرف تدريجياً عن المسار المطلوب، وأن العراق يتجه باتجاه تجارب الماضي المرير» مدعيا أن «هناك محاولات لانتهاك حقوقنا الدستورية».
وفي مؤشر على تعمق الخلافات بين الحزبين الكرديين الكبيرين، طالب الاتحاد الوطني بالتعامل بشكل مباشر مع الحكومة الاتحادية بصرف مستحقات السليمانية دون الرجوع إلى حكومة الإقليم، إلا أن الحزب الديمقراطي رفض ذلك بشدة واعتبره تدخلا بشأن الإقليم الداخلي!
وأكدت المادتان 13 و14 من قانون الموازنة العامة، أكدت على إلزام حكومة الإقليم بآلية تصدير النفط من شمال العراق عبر شركة «سومو» الاتحادية وإيداع المبالغ في حساب في البنك المركزي، وليس استحواذ حكومة الإقليم مباشرة على واردات تصدير النفط، كما هو الحال الآن.
والجدير بالذكر ان العراق، وبخلاف جميع دول العالم، لا توجد فيه حسابات ختامية للميزانيات منذ عام 2005 وهو ما دفع سكرتير اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي، رائد فهمي، إلى رفع دعوى لدى المحكمة الاتحادية ضد رئيسي البرلمان والحكومة لعدم وجود حسابات ختامية للسنوات الماضية.
وقال فهمي في بيان إن «من المفترض أن تصدر المحكمة الاتحادية العليا قرارها بشأن الدعوى التي رفعها الحزب الشيوعي ضد رئيسي مجلس النواب والوزراء إضافة إلى وظيفتهما، لانتهاك المادة الدستورية 62 والتي تلزم الحكومة بوجوب تقديم الموازنة إلى مجلس النواب مشفوعة بالحسابات الختامية» عدا ذلك بانه «يشكل خللا كبيرا يؤثر حتى على عملية صياغة الموازنة ووضعها».
وكانت آخر موازنة أقرّت في العراق عام 2021 فيما لم يتم اعتماد واحدة في العام 2022 بسبب خلافات الأحزاب السياسية بعد الانتخابات التشريعية الأخيرة.
ويتفق المراقبون على أن الميزانية الجديدة مليئة بالأخطاء والثغرات والألغام، وستكون لها تداعيات سلبية على الأوضاع الاقتصادية للبلد حاضرا ومستقبلا، كونها تشكل هدرا كبيرا للموارد المالية وسوء تخطيط في إدارتها، إضافة إلى منح الغطاء الشرعي لبعض أوجه الفساد ونهب المال العام، ما يزيد غنى الأغنياء ويضاعف فقر الفقراء. فيما يتضح ان إقرار الميزانية بعد نقاشات طويلة لمدة 6 أشهر لم يكن من أجل مصلحة الشعب بل بسبب صراع الأحزاب حول تقاسم الثروات .

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *