عندما «خرجت» بغداد من سورها المحيط ببيئتها المبنية، السور الذي يعود تأريخه الى العهد العباسي، والذي ظل لعشرات العقود من السنين حافظاً ومحدداً مساحتها الحضرية؛ كان ذلك الخروج بمثابة شهادة بيّنة، شديدة الوضوح، لفقدان ذلك السور لأغراضه التي شًيّد من أجلها، و»دخول» بغداد زمناً آخر: زمن الحداثة والتجديد…و»التحرر» من الأسوار، و»الأغلال» بالمفهوم المباشر والرمزي!
كانت “العيواضية” (العلوازية) مبتدأ ذلك الخروج من جهة الشمال، وعلامته الفارقة، ثم كرسته “الوزيرية”، في المشهد المعماري (حيث شكلت امتداداً مكانياً للعيواضية). ولئن كانت نماذج عمارة فترة العشرينات التي “سجلت” ذلك الخروج، بمثابة نواة الفكر المعماري الجديد المشوب بالقيم الحداثية، فإن عمارة عقد الثلاثينيات هي مرحلة نضوج تلك الأفكار وتكريس مبادئها وظهور قيمها والتمتع بقطاف ثمارها. واذ انطوت الممارسة البنائية في العقد العشريني على تداخلات وتقاطعات نهجوية بين طرق البناء التقليدية وأساليب العمارة الجديدة، فإن النشاط البنائي عموماً بالعقد الثلاثيني هو صفاء ووضوح لغة السياقات المعمارية الحديثة المفعمة بنكهة الحداثة. وما كان أمراً بعيد المنال، كما كتبت مرة، وعُدّ غريباً أو طوبائياً في العشرينات، أمسى حدثاً معمارياً واقعاً ومألوفاً، وربما عادياً في الثلاثينيات. فنحن إزاء أحداث سياسية واقتصادية واجتماعية خطيرة جرت في الثلاثينيات أحداث أسهمت في إيجاد أرضية مناسبة لتلك الانعطافات المعمارية الكبيرة التي شهدها العقد الثلاثيني. إذ تبوأ العراق وقتذاك مركزه السياسي المرموق كدولة مستقلة نادرة الحدوث في الخارطة الإقليمية مكرساً حدث الاستقلال الناجز بانضمامه إلى عصبة الأمم (1932)، الأمر الذي اكسب العراق شهرة مضافة واهتماماً دولياً انعكس بصيغ عديدة على تطوره المعماري. كما ينبغي الإشارة إلى حصول زيادة ملحوظة في الموارد المالية للبلد في هذا العقد وخصوصاً تلك المتأتية من استخراج النفط وعمليات تصديره. إذ على الرغم من اكتشاف النفط بصورة تجارية في العشرينات (1927) فإن عمليات التصدير الفعلية الكبرى له، وكذلك إبرام الاتفاقيات بين الشركات النفطية والحكومة، جرت في هذا العقد تحديداً، الأمر الذي أمن الاحتياجات المالية الضخمة لتشييد مبانٍ عديدة وأغرى كثيراً من المعماريين والمهندسين الاجانب للعمل في العراق. ولقد كانت سنوات ذلك العقد مكرسة أيضاً لتلبية متطلبات تحديث .
لقد افضت الحماسة في تحديث المؤسسات الحكومية، وقتذاك، إلى (حمى) تشييد مبانٍ عديدة ومختلفة كي يمكن استيعاب المتطلبات الوظيفية الجديدة لتلك المؤسسات، الأمر الذي ملأ وأثرى المشهد المديني بصروح لتكوينات بنائية لم تكن مألوفة أو معروفة مسبقاً، وترادفت تلك الحركة من البناء الكثيف مع نزعة ظهور طبقة جديدة من أرباب العمل، تلك هي طبقة المثقفين الوسطى (الانتلجينسيا). لقد ارتضت هذه الطبقة أن تكون لها مساكن ومقيميات جديدة لا تقل شأناً عن حداثة المباني الحكومية ذاتها، كما أنها أحست سريعاً بعدم استجابة بيوت الآباء والأجداد التقليدية للإيفاء بالمتطلبات المستحدثة في حياتهم ومراكزهم الجديدة. كما أن هاجس التغيير والتجديد الذي امتلك الشعور العام وقتذاك أسهم في جعل حركة البناء السكني تظهر وكأنها واحدة من أكثر الفعاليات المعمارية انتشاراً وتأثيراً في ذلك النشاط.
ومن الأمور المهمة التي عجلت بإرساء السياقات المؤثرة في البيئة العمرانية للثلاثينيات وجود مؤسسات خاصة معنية بتنظيم العمل البنائي وتحسين نوعيته. ولم يقتصر عمل هذه المؤسسات على مواكبة الجانب التطبيقي والفعلي لعملية البناء وانما اهتمت ايضاً في إبداء مقترحات وتوصيات أفضت في النتيجة إلى سن قوانين وتشريعات لعبت دوراً أساسياً في تنظيم وترتيب وخلق البيئة المعمارية الجديدة برمتها، كقانون البلديات الذي شرع في سنة 1931، وإصدار (قانون الطرق والأبنية) لسنة 1935 الذي أعتبره “سيد” قوانين البناء، لما له من تأثير خطير في جميع مراحل تطور العمارة والبناء في العاصمة وفي عموم البلاد.
لقد شهد عقد الثلاثينات، وفي محلة الوزيرية تحديداً، بداية ظهور بيوت سكنية و”فيلات”، ذات اشكال تصميمية مختلفة تماماً عما كان مألوفاً عن عمارة البيت السكني البغدادي التقليدي. لم يكن ذلك الاختلاف مقتصراً على كبر مساحة “العرصة” الواسعة التى شُيدت عليها البيوت السكنية فحسب، وإنما كمن ذلك الاختلاف ايضاً، في تغاير اسلوب تنظيم الفضاءات وتوزيعها في تلك المساكن، كما انطوى على اساليب التركيبة جديدة، مع استخدامات انواع غير معروفة من مواد انشائية، بالإضافة الى توظيف تفاصيل لعناصر تصميمية غريبة على الممارسة البنائية المحلية. جدير بالاشارة أن نمط اساليب عمارة الثلاثينيات ومزاجها، امتدت تأثيراتهما الى عمارة عقد الاربعينيات، ما كرس اهمية عقد الثلاثينيات في المشهد المعماري العراقي بكونه “عقداً فريداً”؛ انطلاقاً من المقولة القائلة، من أن قيمة “الحدث” تزداد اهميته، عندما تتلمس تأثيراته وتُلحظ في مسار “الأحداث” اللاحقة!
تُعد دار الفريق الركن “ياسين الهاشمي”، المشيّدة في النصف الثاني من عقد الثلاثينيات في محلة الوزيرية، من الدور المميزة في مقاربتها التصميمية، والفريدة في اهميتها المعمارية، فضلاً عن قيمتها التوثيقية كمثال “حيّ”، ونادر لفترة مهمة مرت على العاصمة، (وعلى البلاد ككل)؛ ما يجعل منها لتكون “مستنداً” وثائقياً لذاكرة بغداد المعمارية، و”شهادة” واضحة وأمينة… وحقيقية لتلك الذاكرة! لا تشير المعلومات المتوفرة عن الدار الى إسم مصممها، الذي ظل، مع الأسف، مجهولاً. (ومع هذا، فإني أرجح أن يكون المعمار “هارولد كلايفورث ميسون” (1892 -1960) H. C. Mason، هو معمار الدار، على الرغم من انه غادر العراق وقتذاك، للعمل بلندن، مع صديقة المعمار “ويلسون”، إلا أنه ما انفك أن بقى على علاقة وطيدة مع رجالات الطبقة السياسية العراقية الحاكمة حينذاك، بعد أن عمل فترة طويلة في العراق وشيّد الكثير من المباني المهمة فيه. وإن لم يكن “ميسون” ذاته معمار المبنى، فإني اظل أُميل بأنه أحد اتباعه أو تلامذته، لأن لغة العمارة الموظفة في الدار، تشي بنمط وبأسلوب مقاربة ميسون المعروفة والمفضلة لديه!).
وعلى امتداد تاريخها الطويل الممتد نيف وتسعة عقود، ظلت الدار تمثل بفورمها المميز، وكتلتها المنحوتة بفنية لافتة، ولغة عمارتها المهذبة، قيمة جمالية عالية، مثلما كان يشي حضورها في المشهد بكونها وثيقة معمارية و”مستند” مادي لذاكرة بغداد المعمارية. وبرغم تنوع الأشغال الذي قامت به كدار سكنية، وكمبنى لسفارة الاتحاد السوفياتي ببغداد سنة 1940، وتالياً كمقر لسفارة اليابان في 1952، ثم كمدرسة ابتدائية سنة 1969، وكمقر لنوادٍ اجتماعية عديدة بدءاً من سنة 1981، لحين استخدامها كمقر جمعية المصورين الفوتوغرافيين في الفترة الاخيرة، بقيت الدار محافظة على شكلها الفريد، محتفظة بعمارتها الاستثنائية وتفاصيلها المتقنة العديدة. لكن مصيرها التعس تحدد سنة 2017، عندما تم هدمها بالكامل، وقلعها من أساسها، ليصار موقعها مجرد “موقف للسيارات»!
عندما صورت موقعها، أخيراً، انا المفتون بعمارتها وبنموذجها التصميمي النادر (وقد صورتها مراراً قبل هذا التاريخ)، كنت اطرح على نفسي، وانا حزين ومصدوم لما حدث، سؤالاً واحداً بكلمة واحدة:
-»ليش؟»!
لماذا، هذة القسوة؟، لماذا هذا التخريب؟. لماذا يحدث كل هذا الآن؟ هل، حقاً، أن الدولة النفطية، لا تستطيع أن تحتفظ بهذا النموذج المميز من العمارة، في الاقل للحفاظ على ذاكرتـ “نا” المعمارية، في الاقل للحفاظ على صورة بغداد التي نحب؟!
لماذا لا “تثير” هذه الوقائع اصحاب الشأن، جمعيات المجتمع المدني، المؤسسات الاكاديمية والمنظمات المهنية وحتى…وزارة الثقافة، المؤتمنة على حفاظ تراثنا المادي… وغير المادي؟!
أسفي على ما يحصل، أسفي الشديد لضياع مثل تلك النماذج الحضارية الفريدة التى لا تقدر بثمن!