مطل على إحدى ساحات بغداد الحيوية، يعتبر مقهى “الزهاوي” نقطة جذب مهمة في المدينة. يحمل هذا المكان الشهير اسم الشاعر والفيلسوف العراقي جميل صدقي الزهاوي (1863 – 1936)، الذي أضفى عليه شهرة لا تنضب. بغداد، كغيرها من المدن العربية، تعرف بأسماء متألقة لمقاهي أثرت في تاريخها.
يشكل المقهى مكانًا عامًا حيث يجتمع الناس للاستمتاع بالقهوة، الشاي، النارجيلة، أو الشيشة. يُعتبر هذا المكان مثلًا لمجلس أو منتدى حيث يلتقي الأفراد لتبادل الحديث والتفاعل الاجتماعي.
قديمًا، كانت المقاهي الملتقى الرئيسي للناس لتبادل أخبار وأحوال البلاد. اندمجت بعضها كمقاه أدبية، حيث جلس عليها الأدباء للالتقاء والتفاعل. كما تميزت مقاه أخرى بجذب فئات معينة من الناس.
تعود جذور مقهى يقع في بداية شارع الرشيد، بين الميدان والحيدرخانة، إلى الفترة قبل 1917، في أيام الوالي ناظم باشا. بدأت بشكل سقيفة بسيطة، حيث تولى إدارتها عدة أشخاص من بينهم أحمد الخطيب، وسلمان الكندير، وآخرون، وواصل قيس عبد الجبار الإدارة. في البداية، كانت تسمى بـ “أمين أغا”، قبل أن يتغير اسمها إلى “الزهاوي”، مستلهمة من الشاعر جميل صدقي.
يتألق مقهى الزهاوي كواحد من أبرز المقاهي في بغداد، جنبًا إلى جنب مع مقاهى مثل (حسن عجمي) و(البرلمان) و(عارف اغا) و(البلدية) و(الشابندر). تعود تسميتها إلى لقاء دعاها إليه رئيس الوزراء نوري السعيد مع الشاعر الزهاوي.
في غياب نوادٍ أو فنادق راقية، سأل الزهاوي رئيس الوزراء: “وين نلتقي؟”، فأجابه بالالتقاء في قهوة أمين. جاء هذا اللقاء الفخم برئاسة الحكومة وحضور الشاعر الفيلسوف، في مكان يخلو من تجملات الحياة الرفيعة إلا بوجود بضعة مصطبات وكراسي قديمة وجهاز فونوغراف. نعم، هنا في هذه المقهى، كان رئيس الحكومة نوري السعيد يجتمع.
أعجب الزهاوي بهذا المكان، فأخذه مكانًا خاصًا له، وسرعان ما تحوّل إلى منتدى للأدباء والمفكرين، حيث انطلق اسمها باسم المقهى المشهور: (مقهى الزهاوي).
يُقال إن العراق هو مهد الشعراء ومأواهم، وله يدين الأدباء العرب بميلاد الشعر الحديث الذي رسخته شخصيات مثل بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي، والذين يُعتبرون جيلًا ثانيًا من شعراء العراق في العصر الحديث. قد سبقهم شعراء مثل الزهاوي والرصافي والشبيبي.
شهد المقهى تواجد عدة أجيال من الكتّاب والفنانين والمثقفين والصحفيين. في هذا المكان، كان الزهاوي يقدم ردوده الشهيرة على عباس محمود العقاد، والتي نُشرت في صحف بغداد والقاهرة في الثلاثينيات. كما استضاف الزهاوي الشاعر الهندي الكبير طاغور في عام 1932، إضافةً إلى لقاءات أدبية وثقافية حملت طابعًا فريدًا في هذا المكان التاريخي.
في مقهى الزهاوي، كان الشاعر يُلهب أوراقه بردوده الشهيرة على عباس محمود العقاد، وكانت هذه الردود محل انتشار واسع في صحف بغداد والقاهرة خلال الثلاثينيات. كما أنه استضاف هناك الشاعر الهندي الكبير طاغور في عام 1932.
كان للزهاوي عاداته الفريدة في هذا المقهى. إذا أبدى أحد الحاضرين إعجابه بشعره، كان يُطلب من صاحب المقهى: “أمين، لا تأخذ فلوس الشاي.” ويُقال إن المناقشات الحادة بينه وبين منافسه الشاعر الرصافي كانت تجري على تخوت المقهى، حيث كان يحركها أحمد حامد الصراف.
في إحدى المرات، اطلع الزهاوي على ملاحظات الرصافي التي كتبها على صفحات ديوانه، وفي سياق آخر، كتب الدكتور أحمد سوسة مباحثاته عن محلات بغداد القديمة. ضم المقهى جماعة واسعة من الشعراء والمفكرين والمثقفين، وكان ملاذًا فكريًا وأدبيًا حيث تمت مناقشة الآراء ونقاشات سياسية وثقافية وأدبية. شهد على مر السنين لقاءات لشخصيات لعبت أدوارًا وطنية بارزة في تاريخ البلاد.
استضاف مقهى الزهاوي تواليًا أجيالًا غنية بالأدب والثقافة والسياسة والصحافة. شهد تواجد روادًا بارزين من الصحافيين ورؤساء التحرير، مثل نوري ثابت، عادل عوني، توفيق السمعاني، وإسماعيل الصفار.
لم يقتصر دور المقهى على الأدباء والصحافيين فقط، بل شمل أيضًا بعض السياسيين والشخصيات المعروفة من رجال الدولة، مثل فاضل الجمالي، عبد المسيح وزير، وعبد الرزاق عبد الوهاب. كما كانت المقهى مركزًا اجتماعيًا لأعضاء فرقة الزبانية للتمثيل، حيث كانوا يلتقون للاستراحة والتداول في شؤون الفرقة.
رفاق الزهاوي، مثل الحاج ناجي الراوي وفخري رسول والمطرب ناظم الغزالي، كانوا يستمتعون بأوقاتهم ويتبادلون الأحاديث في جو مريح. اجتذب المقهى أيضًا الشعراء والأدباء والصحافيين الذين كانوا يرتادونه لقرب مكاتب صحفهم ومطابعهم.
هكذا كان مقهى الزهاوي، واحة من واحات الفكر والأدب، ترتبط بأسماء مشهورة في تلك الحقبة الزمنية، مثل يوسف عز الدين، عبد الرزاق الهلالي، ماهر حسن فهمي، وعبد الحميد الرشودي. انضم إليهم عبد القادر المميز صاحب جريدة أبو حمد، الذي استقبله الزهاوي ببيتين شعريين يعبران عن الترحيب والفخر.
قد جاءنا ابوحمد – يمشـي كمشـية الاســد
قد طابت القهوة لي – صب يا ولد!صب يا ولد!
احتفظ مقهى الزهاوي على مر العقود الأخيرة برواده المثقفين والحلقات الأدبية التقليدية، حيث جمعت مجاميع شعراء العمود وكتّاب المقالات والأدباء المحافظين وأنصار التراث. بقيت هذه الجماعة وفية للتقاليد، رافضة للتيارات المجددة والتطلعات الحديثة والتغيير، حيث يلتقون في هذا الفضاء الثقافي والأدبي.
تمثل المقهى جزءًا لا يتجزأ من التراث الثقافي، وفي منتصف الثمانينات، واجه التحديات والأخطار التي كادت تهدد بزواله أو تحويله إلى مكان آخر. حين أراد مالك العقار بيعه، تحدى رواد المقهى هذا القرار، مطالبين بالحفاظ على هويته كملتقى أدبي ومركز ثقافي، وكذلك ذاكرة أجيال لا تنسى.
تم بيع المقهى لأمانة بغداد، التي قامت بتأهيله ليصبح صرحًا ثقافيًا وحضاريًا، مع الاحتفاظ بسمات الأصالة والتجديد. الشاعر أنور عبدالحميد السامرائي، المدافع المؤثر عن المقهى، ألّف قصيدة تعبر عن هذا التاريخ الحيوي، حيث قال:
“يا زائراً هذه المقهى ترى عجبا
فيها من العلم والتاريخ فرسانا
الطب فيها وموسيقى وفلسفة
والذاكرون مساءً ربي أحياناً”