اصبحت السيارات تشكل واسطة نقل ضرورية بين بغداد وضواحيها في أواخر العشرينيات بعد ان قامت امانة العاصمة بتسيير الباصات في شارع الرشيد . وكانت هياكلها الكبيرة قد صممها وصنعها محلياً عمال بغداديون في ورش خاصة بهم قرب مقبرة الامام الغزالي . كذلك صنعت في مدينة النجف ايضاً بشكل امتاز بالجودة والمتانة واخذت هذه الباصات تنقل الركاب بين باب المعظم والباب الشرقي بأجرة قدرها أنة واحدة ، أي ما يعادل [اربعة فلوس] وكان لتلك الباصات باب واحد في الخلف للنزول والصعود معاً ويقف عليه الجابي.
وفي بداية الثلاثينيات حصل توسع كبير في استعمال السيارات بعد الحصول على وكالات الاستيراد من شركات السيارات الاجنبية “ البريطانية والامريكية والالمانية فقد كانت شركة شفيق عدس تستورد سيارات الفورد وشركة كتانة تستورد سيارات الدوج والبلايموث وشركة بيت لاوي تستورد سيارات الشوفرليت وشركة داود ساسون للسيارات البريطانية موريس اوستن وفنكارد وشركة يوسف سعد للبيكارد والهدسن والناش ، اما السيارات الالمانية فقد كان يستوردها التاجر جورج عبديني. واستوردت تلك الشركات في منتصف الثلاثينيات باصات نقل صغيرة سيّرت في شارع الرشيد لغرض نقل الركاب في بغداد والكرادة والاعظمية وكانت شركة عزرة حكاك هي التي استوردت القسم الاكبر.
وبعد قيام الحرب العالمية الثانية قامت بريطانيا بالسيطرة على جميع وسائط النقل والمواصلات ومنها شركة كرنل لبنان . التي كانت تمتلك (30) سيارة من نوع شوفرليت بدون بدن وكانوا قد استحصلوا على امتياز من الحكومة العراقية لتشغيل هذه السيارات في شارع الرشيد لمدة (15) عاماً . الا ان نظام الباصات “ مصلحة نقل الركاب “ الذي صدر في تلك الحقبة لم ينفذ بسبب ظروف الحرب التي لم تسمح بالتوسع باستيراد وسائط النقل والمواصلات باتاحة الفرصة للشركات الاجنبية للعمل في العراق . وفي عام 1940 تمكن امين العاصمة ارشد العمري من الحصول على موافقة الحكومة ،على الغاء امتياز شركة كرنل وتشغيل سياراتها لحساب امانة العاصمة ،بعد استملاكها وحصلت موافقة الحكومة وعين ابراهيم شندل الموظف في امانة العاصمة مسؤولا عن تلك السيارات. وكانت هذه السيارات هي النواة الاولى “ لمصلحة نقل الركـاب “ في بغداد وقد واجهتهـا
صعوبات كثيرة في بدايتها منها قلة عدد السواق المجازين فبذلت جهوداً كبيرة لتشغيل تلك الباصات وتنظيم عملها وقامت بطبع تذاكر خاصة بها وعرفت هذه الباصات من قبل اهالي بغداد بـ( الامانة ) .
ان النظام الذي وضع لتسيير الباصات في بغداد كان نظاماً تجريبياً قامت مديرية شرطة المرور باختياره وتعديل النواحي غير المفيدة منه . وحصلت عند تطبيقه مشكلات كثيرة من سواق الباصات ، وتذمر الاهالي ، فاخذت الامانة معالجة تلك المشكلات بطرائق شتى ، وقسمت مناطق السير في بغداد وضواحيها الى خطوط عدة . واهتمت مديرية شرطة المرور بالموضوع وعملت من جانبها على تخفيف الازدحام الذي تسببه السيارات عند وقوفها على جانبي الشوارع، وحددت اماكن خاصة للتوقف في كل منطقة ، ومنعت وقوف السيارات الكبيرة لا سيما باصات الكرادة والاعظمية في شارع الرشيد وسمحت لعدد معين من تلك الباصات بالسير بين الباب الشرقي وباب المعظم على ان تعطى ارقام متسلسلة كل يوم ومنعت تسابق اصحاب الباصات او وقوفهم وقتاً طويلاً وان يغادر الباص الواقف حالاً عند قدوم باص اخر. ووضعت في كل موقف لوحاً احمراً مستطيل الشكل في اقرب مكان مدون عليه اسماء المناطق وارقام الباصات التي تمر فضلاً عن الواح اخرى ترشد الراكب الى اماكن الوقوف الاختيارية لكي ينزل في احد هذه المواقف بعد اخبار الجابي بذلك قبل الوصول.
وكانت الأجرة محدودة وحسب نوع الباص ، اذا كان من الدرجة الاولى( 14) فلساً في حين تكون الثانية (10فلوس) والمسافات بين المناطق يحددها السائق في جدول مسافات الباصات في بغداد وحددت اوقات سير الباصات من الساعة السادسة صباحاً الى الساعة الثانية عشر ليلاً.
ظهرت تأثيرات الحرب العالمية الثانية على قطاع النقل والمواصلات بشكل كبير مما أدى الى حدوث ازمة بارزة في النقل والمواصلات . وحظيت باهتمام ابناء الشعب لاتصالها الوثيق بحاجاتهم اليومية فاهتم بها المسؤولون ووضعوا الحلول لها واقترحوا زيادة استيراد سيارات النقل المتنوعة لقدم الموجود منها في بغداد وعدم ملائمتها لتطور البلاد .
تذمر اهالي بغداد لعدم معالجة مشكلة النقل بشكل سريع فضلاً عن سوء تصرف سائقي سيارات الاجرة ومضاعفتهم للاجور وضغطهم على أعصاب الراكب وقيامهم بأنزاله في منتصف الطريق بدلاً من نهايته بهدف الكسب السريع.
حاولت امانة العاصمة اتخاذ اجراءات عاجلة لمعالجة ازمة النقل والمواصلات ، فقامت بتأسيس شعبة النقليات في عام 1942 ، بهدف تنظيم عمل الباصات وتهيئة العدد الكافي من السواق المؤهلين لقيادتها. وكان اول عمل لها في هذا المجال شرائها مجموعة من اللوريات القديمة من مبيعات الجيش البريطاني في منطقة الشعيبة في مدينة البصرة ، وكانت على ثلاثة انواع (الدوج ، الفورد، الشوفرليت) وصنعت لها ابداناً من الخشب في معامل النجارين البغداديين.
سيَّرت امانة العاصمة في عام 1943 (21) باصاً خشبياً في شارع الرشيد ، الذي قسمته على ثلاثة مناطق ، تبدأ الاولى من باب المعظم وتنتهي في سينما الحمراء [ موقعها في ساحة الامين حالياً] وتبدأ المنطقة الثانية من سينما الحمراء وتنتهي عند سينما الزوراء ، اما الثالثة فتبدأ من سينما الزوراء وتنتهي في الباب الشرقي.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وتحسن الأوضاع الاقتصادية وزيادة أعداد السكان وتوسع المدينة ، اهتمت امانة العاصمة باستيراد باصات حديثة فعقدت صفقة لشراء (100) باص، قامت بعد وصولها بفتح خطوط جديدة لها ، وبلغ عدد الباصات حتى نهاية عـام 1947 (113) باصاً قديماً و(7) باصات جديدة ، و(27) باصاً عاطلا عن العمل. وفي العام نفسه اعيد تشكيل مصلحة نقل الركاب مرة ثانية وانتقلت اليها ممتلكات شعبة النقليات ، وبقي نوع من الارتباط بين مديرية مصلحة نقل الركاب وامانة العاصمة يتمثل بتعيين امين العاصمة رئيساً لها.
وفي عام 1950 عدل قانون المصلحة السابق رقم ( 38) لسنة 1938بقانون المصلحة الجديد رقم (62) لسنة 1950. وبموجبه توسعت اعمال المصلحة ، وقامت بالتخلص من الباصات القديمة واحلت محلها باصات حديثة بعد استيرادها (100) باص من بريطانيا ، وتبع ذلك توسع ( الكراجات ، ومحلات تنظيف السيارات وتصليحها ) ، وازدادت اعداد الخطوط الى اكثر من (40) خطاً وبلغت اطوالها (300) كم.
وفي بداية الخمسينيات ازداد عدد الباصات في بغداد ، بعد استيراد (200) باص من ذات الطابق الواحد ، فأخذت تعمل في شارع الرشيد ، وفي عام 1953 ظهرت الباصات من ذات الطابقين لاول مرة بعد قيام امانة العاصمة باستيراد 20 منها. ونظرا لحاجتها الماسة لعدد من السواق فقد فتحت دورة لتعليم قيادة السيارات وفي عام 1954 اشترت امانة العاصمة بعد انتهاء المعرض التجاري البريطاني المقام في بغداد ، الباص الوحيد المعروض في المعرض.
وقامت مصلحة نقل الركاب بالاهتمام بالناحية الاجتماعية لموظفيها فعملت على توفير ملابس خاصة لهم لاسيما السواق والجباة عن طريق تأسيس معمل خاص لهذا الغرض ، وتوفير الخدمات الطبية بتأسيس مستوصف كامل التجهيزات وتشييد مطعم لتقديم ثلاث وجبات لهم باسعار زهيدة واسست لهم حمامات مجانية ، وجمعيتين تعاونيتين احدهما استهلاكية والثانية لبناء المساكن مع نادي ترفيهي يستقطب فعالياتهم ونشاطاتهم بعد انتهاء اعمالهم.