محلة قنبر علي، في أطراف القسم الشمالي من بغداد خلال نهاية العصر العباسي، تميزت بتواجد بساتين ومقابر (أبرز) على الأطراف الشرقية. امتدت هذه المنطقة بين محلات بغداد المأهولة وسور الجانب الشرقي، وتمتد نحو المقبرة المنسوبة إلى الغزالي. في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وفقًا لكتاب أحوال بغداد لفلكس جونز، كانت محلة قنبر علي عام 1846 تشمل جامعًا وقهوتين وحمامًا ومجموعة من الأماكن الدينية والاجتماعية مثل مسجد عبد الغني، وقهوة إسماعيل كهية، وغيرها.
في الرصافة، توجد محلة قنبر علي، وفقًا للمعجم الجغرافي لمحمد رؤوف طه الشيخلي، تمتد بين المحلات المجاورة، مثل إمام طه والعاقولية وعباس أفندي الست هدية والبو شبل حنون الكبير والتوراة، مع وجود مسجد قريب من الشارع الممتد إلى سوق حنون من الجنوب ومحلة عباس أفندي من الشمال. تشمل المحلة اثني عشر شارعًا، وذلك في الفترة بين عامي (1270-1360هـ).
وفقًا للدكتور عماد عبدالسلام رؤوف، في كتابه حول الأصول التاريخية لأسماء محلات بغداد، يشير إلى أن محلة قنبر علي وسط محلات البو مفرج والمهدية وتحت التكية وباب الاغا وإمام طه، ترتبط بجامع يعود تاريخه إلى 874-1469م. في العصر العباسي، كانت تُعتبر جزءًا من محلة المختارة. وقد روجت لاسمها بنسبتها إلى مرقد يدعى قنبر علي. ومن ثم، عرفت باسم محلة جامع قنبر علي بعد بناء الجامع عند المرقد المعني، ويشير سجل المحكمة الشرعية في بغداد في السنوات (1929-1231-1233هـ) إلى هذا التحول.
تعتبر محلة قنبر علي من الأماكن التاريخية في بغداد، حيث تضم عدة معالم بارزة، مثل زقاق الباشا وشارع عباس أفندي وسلطان حمودة، الذي كانت تتخذه أسرة معروفة مكان إقامتها. كان زقاق الباشا يُعَدّ امتدادًا لمحلة تحت التكية حيث يقع مسجد حسب الله.
بعد فتح شارعي غازي (الكفاح) والخلفاء (الجمهورية)، شهدت المنطقة تغييرًا كبيرًا، وأصبحت حدودها تحدها شوارع غازي والأمين والخلفاء وقاضي الحاجات (عقد المصطنع)، مشملة الأسواق والدرابين مثل سوق حنون الكبير وتحت التكية وعكد البحر وعكد خضر بك ودرابين صغيرة أخرى.
أما بالنسبة للأسواق، فإن سوق قنبر علي كان يشتهر ببيع الخضراوات والخبز، الذي كان يُعد في محلات الخبازين (مقابل قهوة النقيب). وكان هناك سوق حنون، وهو امتداد لسوق قنبر علي، يُقسّم إلى قسمين: سوق حنون الكبير وسوق حنون الصغير، يُباع فيه الدجاج الحي والبيض والسمك. وتعتبر منطقة قنبر علي ثالثًا، حيث كانت تعرف بالعصر العباسي باسم قراح (بن رزين) وكانت معروفة بكونها أحد أقدم كنائس اليهود، وكانت تُعرف سابقًا باسم محلة اليهود والتوراة الكبيرة.
رابعًا، تحت التكية كانت تعرف في العصر العباسي بالمحلة المقتدية، اشتهرت بتأسيسها الخليفة المقتدي بالله العباسي، وفي العصور التالية، اتخذت تسمية تحت التكية، نسبة إلى تكية قديمة كانت تقع في أقصى نهاية محلة قنبر علي.
خامسًا، عكد خضر بك، وفي كتاب “أحوال بغداد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر” لفلكس جونز، ورد ذكره لهذا العكد الذي يتكون من عقود كش مثل حلة وامام طه وعلي أفندي وعقد باب الجامع وابو دراج وجامع الخانم ويمتد إلى عكود الضيق وحمص جي.
سادسًا، عكد بحر يضم دورًا ومجالس (ديواخانة) لعائلة الجميل وعكد اليهود. أما الدرابين، فتشمل دربوبة الطنطل ودربونة الكرد والدربونة الصغيرة ودربونة أم الخطاط، حيث كان يُباع فيها الديرم والسبداج والحمرة ومواد المكياج السائدة آنذاك.
أما المكان المقدس، جامع قنبر علي، تم الإشارة إليه للمرة الأولى في نص قديم يرجع إلى سنة 874هـ كمعلم من معالم بغداد. لم يُشار إلى هوية المعلم إذا كان مقبرة أو جامعًا أو تكية، ولكن يُشير النص إلى وجود مقبرة بالقرب منه. في وقفية خواجة أمين الدين لطف الله الخازن، وُقِف على مرقد قنبر علي ومعيشة الفقراء والمساكين في غرة 894هـ، وتم تجديده في السنوات التالية، بمساهمة من أحد أبناء المحلة، جاسم القيسي التوتونجي. وفي الزاوية اليسرى للجامع، تقع قبور آل الجميل.
يُوجد الجامع في محلة 115 ز 56 دار 4، يحتل زاوية الزقاق النافذ نحو عقد قنبر علي على الركن الأيمن الداخلي لشارع غازي. يتميز الجامع بساحته المكشوفة التي تحتوي على غرفتين، إحداها للإمام والأخرى لخادم الجامع، وتحتوي على طارمة مسقفة. يتميز واجهته بثلاثة أقواس كبيرة، وعلى عكسه، لا يحتوي على مئذنة، ويتميز المحراب بتكوينه من الطابوق المزخرف، محاطًا بفريز من الطابوق المنجور، بالإضافة إلى طاق ومقر نصات ورتاج مزخرف أعلى المحراب.
تحمل التربة المحيطة بالجامع عادة نقودًا تُلقى من قبل الزوار والأهالي، تُعتبر تلك النقود عربونًا للشفاعة وللوفاء بالنذور. كما يمكن رؤية لوحة كبيرة ومؤطرة معلقة على الحائط الداخلي، تشير إلى أمر الحجاج بذبح قنبر، مولى علي بن أبي طالب (ع)، ودفنه في هذه التربة. ومع ذلك، تُشير الأقوال إلى أن هذه الرواية غير دقيقة، حيث لم تكن بغداد موجودة في زمن الحجاج، والمدفون في هذا الموقع ليس قنبر مولى علي (ع).
وفي كتاب “تاج العروس”، يُشير إلى أن قبر أبي طالب نصر المبارك الكاتب، ناظر الخزينة، قد يكون مُنسَبًا إلى رجل يُعرَف في العصور اللاحقة باسم “قنبر”. ويرجح الشيخ محمد صالح بن محمد سليم السهروردي في مخطوطته “بغية الواحد في الجوامع والمساجد” أن يكون القبر لأبي طالب نصر بن علي الناقد الملقب قنبر، من رجال الخليفة المستضيء بالله. أما الدكتور حميد هدو في حاشيته على مخطوطة “تذكرة الأولياء”، فيشير إلى أن قنبر هو مولى الإمام علي الهادي بن محمد الجواد (ع) في القرن الثالث الهجري، وتم دفنه في مقبرة باب أبرز في جامع قنبر علي المعروف عند الناس باسم جامع قنبر علي وكنية أبو طالب.
في منطقة قنبر علي ومحيطها، يتواجد مجموعة من المساجد، ومن بينها:
أما بالنسبة لكنيس شيخ اسحق، يُوجد في منطقة التوراة قرب سوق حنون. وفقًا للدكتور عماد عبدالسلام في كتابه “مساجد بغداد ومشاهدها في أخر العصر العثماني”، يُعرف هذا المكان باسم “دفين تلك التربة”، وكان يعتبر معبدًا لليهود. تشير المصادر إلى أن المغسل موجود، ولكن البحث الأخير لم يجد آثارًا للتربة أو المعبد.
في مجال التعليم، تميزت منطقة قنبر علي بوجود عدة مدارس وكتاتيب بارزة. بدأت مع المدرسة المهدية في عكد خضر بك عام 1926، تلتها المدرسة المحمدية في بيت الجميل عام 1936، وتتبعهما المدرسة الوطنية، مدرسة مواسات العميان، ومدرسة العصمة، التي تأسست في عام 1934 وتم تغيير اسمها فيما بعد إلى مدرسة المعتصم. كما أسست مدرسة هدية نشي صالح للبنات عام 1931 ومتوسطة ميسلون.
وبالإضافة إلى المدارس، ازدهرت الكتاتيب في المنطقة، ومن بينها كتاب ملا عبدالله وكتاب ملا ابراهيم، بالإضافة إلى كتاب ملا صالح الفرضي في جامع خضر بك وكتاب لالة هراتي وكتاب ملا خليل. ومن بين الشخصيات البارزة في المحلة يأتي ملة درويشة السيد صالح وملة زكية، الملاية كرجية ام رزوقي، وهؤلاء كانوا مرتبطين بالمدرسة الوطنية.
وفيما يتعلق بأبرز الشخصيات التي نشأت في المحلة، فقد تبوأ حسين جميل، حسام الدين جمعة الزعيم، عبدالكريم قاسم، ومصطفى علي وغيرهم من الشخصيات المرموقة مناصب رفيعة في الحكومة والسلك الدبلوماسي. تشمل هذه الشخصيات السفراء فخري القيسي، طه القيسي، ومحمد علي جواد، إلى جانب شخصيات بارزة في القوات المسلحة والأمن الداخلي. في المجال الطبي، أثبت علي غالب الجميل نفسه كرئيس لصحة بغداد، في حين كان عبدالوهاب الدوري قاضيًا في محكمة تمييز العراق. ومن بين المحامين نجد قاسم حمادي، عزيز الجميل، صلاح الدين حامد، وغيرهم الذين أسهموا في تقديم خدماتهم للمجتمع.
في القرن التاسع عشر، برزت شخصية العلامة الشيخ عبدالغني الجميل كواحدة من وجهاء محلة قنبر علي، وكانت شخصية ثورية معروفة في تاريخ المنطقة. شغل منصب مفتي في بغداد، ورفض التساوي مع الظلم والاضطهاد، مما أدى إلى نفيه وحرق داره ومكتبته الثمينة. رفض الرضوخ للمغريات التي قدمها له الوالي علي رضا وظل يدافع بشجاعة عن حقوق أهالي المنطقة.
كان للعلامة الشيخ عبدالغني الجميل موقفًا شخصيًا واضحًا وإصرارًا قويًا، وأبدع في التعبير عن مواقفه عبر الشعر. من أبرز هذه المواقف، قدم صورة رائعة في قصائده، حيث جسد التحدي والأمل في العدالة. وقد قيل:
“صبراً فإن الليالي تحول
ويرجع للغيب من قد ظلم
وقد يؤرق الغصن بعد الذبول
وقد يسفر الصبح بعد الظلم”
تبرز أيضًا مواقف النخوة والتضامن الوطني في ذلك الوقت، حيث هربت زوجة مفتي بغداد إلى دار جميل زاده، وهو من الوجهاء في المحلة، هاربة من الجندرمة. قام أهل الدار بحمايتها، واستنادًا إلى مقهى النقيب، استنجدوا بالأهالي للدفاع عنها، وشنوا هجومًا على الجندرمة، دافعوهم حتى دحروهم إلى القلعة.
يُذكر أن خلال ثورة عام 1941، شارك طلاب المتوسطة في نقل صناديق العتاد والتجهيزات العسكرية إلى محلة قنبر علي، حيث تخزن في جامع المنطقة. كما يتجلى التضامن الوطني حينما شارك الأطفال في رمي الحجارة على الطائرات الإنجليزية المعادية، معبرين عن تصميمهم في إسقاطها باستخدام تلك الحجارة.