تمتد تاريخ محلة الدهانة إلى عهد المأمون العباسي بعد فوزه في الصراع مع أخيه الأمين بن هارون الرشيد وافتتاح بغداد عام 204 هجريًا. استوطن المأمون ومناصروه في هذه المحلة، والمحلات المجاورة مثل القشلة والهيتاويين. قام المأمون بتخصيص جزءًا من هذه المحلات لجيشه لتكون مقرًا له ولبعض أصحابه. بعد هذا التاريخ، كانت هذه المناطق قريبة من أسواق العطارين، وأسواق الرياحين والزرادين والصفارين، والتي تُعرف اليوم بأسماء مثل الدشتي وأمام طه. هذه المعلومات مستمدة من خارطة بغداد التي أعدها الباحثون الراحلون مصطفى جواد وأحمد سوسة.
الذاكرة الحية تعودنا بعض السكان الباقين في محلة الدهانة إلى تفاصيل حياتهم، حيث كانت المحلة مركزًا حيويًا يجذب الزوار والتجار، وكانت الحيوانات تحمل البضائع المتنوعة من مواد غذائية وعطرية وفواكه وخضروات. التسوق كان نشاطًا حيويًا حيث تنوعت البضائع من البهارات والكركم إلى الكزبرة والحبة السوداء وأكثر. التقينا بالسيد باقر الحيدري، عشاب مشهور في هذه المحلة، وتحدث عن أصل تسمية الدهانة، حيث شهدت الفترة العباسية تجمعًا للحرف والمهن في مناطق قريبة، مما جعل العملية التجارية والحرفية أكثر سهولة وتكاملًا. تسمية الدهانة جاءت من تجمع باعة الدهن الحر الذين يقايضون السكان الريفيين بالشاي والقند والاحتياجات الأخرى.
في قلب محلة الدهانة، يتسامى التاريخ مع وجوه عريقة وأصحاب مهن تاريخية. بين أقدم العطارين، نجد السيد محمود العطار وأخوه صادق، وبين باجه الحاج قنبر صفر علي وشريكه جاسم الباجه جي. في ميدان الصباغة، يبرز السيد نايل المحمود كرمز من بين الأقدمين. يأتي على رأس الشخصيات الوجيهة عبد الكريم الحيدري، المسهم في تأسيس الدولة العراقية الملكية في العشرينيات. تجلت أهمية المحلة من خلال سكانها، مثل صادق البصام، السياسي والوزير في العهد الملكي، وكذلك في بيوت الكبة مع محمد حسن كبة ومحمد مهدي كبة، عضو مجلس السيادة في العهد القاسمي. يضيف إليهم الشاعر المعروف ملا سلمان الشكرجي والعالم اللغوي والباحث مصطفى جواد.
تميزت الدهانة كسوق ومحلة في آن واحد، حيث احتضنت أكثر الصناعات الشعبية الملبيّة لاحتياجات الناس. من الحلويات والشموع إلى ماء الورد والتنانير والفواكه والخضروات وأعشاب العلاجات، إلى أصباغ الملابس والحبوب المتنوعة. التعامل كان إنسانيًا، خالٍ من الغش، حيث كانت الأسعار معقولة، وبيعت الحقة من الزلابية والبقلاوة بمئة فلس. كما تميزت بتقديم مجموعة من الحلويات مثل الشعر بنات والمكاوية وكعب الغزال والنوكة والساهون والملبس وأصابع العروس، بالإضافة إلى تصميم حلويات بأشكال فنية مبتكرة، مثل الطائرات والسيارات واللعابات.
عبد علي خضير محمد الدباس، المولود في 1934، يروي تاريخ محلة الدهانة وكيف ارتبطت اسمها بتجارة الدهن الحر والصناعات التقليدية. يتخذ الدباس تفصيلًا لمعاناة الحرف التقليدية، حيث كانت المحلة متخصصة في صناعة الدبس والعلوجة والحلاوة الرملية. يشير إلى شخصيات مشهورة في المحلة، مثل كنش الشكرجي ونوري المراياتي وجواد الشكرجي. تظهر مكانة الموقع بين الشورجة وسوق الغزل والدهانة كقلب نابض بالحياة والنشاطات الحيوية في بغداد. يسلط الضوء على التجار والحرفيين، منهم الراحل الحاج عباس الديك ومجموعة من المصارعين، مما كان له تأثير كبير في حياة الناس. وفي الختام، يشير إلى الإهمال الحالي لتلك المحلات وأهميتها التاريخية والثقافية، ويطالب بضرورة الاهتمام بها للحفاظ على تراث بغداد وجعلها جزءًا من موروث العراق السياحي.