متنزهات بغداد واقبال الناس لها قديماً وحديثًا ..

متنزهات بغداد واقبال الناس لها قديماً وحديثًا ..

تاريخ الإنسان يشير إلى أن المدن والحضارات نشأت قرب شواطئ الأنهار، وحتى داخل الصحاري في بعض الحالات. يعتبر الماء والخضرة رمزًا للحياة، ويتجلى هذا بوضوح في سعي الإنسان لتحسين وتطوير بيئته، سعيًا للابتعاد عن الضجر والملل نحو أفق السعادة والتمتع بنعم الله.

في الأدبيات والملاحم، تظهر فكرة الترويح عن النفس وقضاء أوقات سعيدة وممتعة كما تشير العديد من الثقافات والشعوب. أود هنا التحدث عن تجربة المتنزهات والأماكن الترفيهية في بغداد العاصمة، حيث عاش الكثيرون أيامًا جميلة وسعيدة، نتمنى من الله أن يجلب لنا مستقبلًا أجمل بعد التخلص من غمة النظام السابق. ابتداءً من منتصف الأربعينيات وحتى الثمانينيات، انتشرت الأماكن الترفيهية العامة على ضفاف نهر دجلة، من الكاظمية إلى جزيرة أم الخنازير. تمتد هذه الأماكن من الحدائق الغناء بجوار المرقد الكاظمي المقدس، إلى اليوم الذي يُعرف بكورنيش الأعظمية، وصولاً إلى أبي نؤاس، حيث تتلاقى مع منطقة الدورة الحالية وما بعدها في جزيرة أم الخنازير.

ورغم الكثافة التي تجتمع في حدائق الكاظمية وكورنيش الاعظمية، وحدائق ابي نؤاس، إضافة إلى مناطق أخرى كـ “بارك السعدون” وحديقة الامة، وقتها كانت المتنزهات تمثل ملاذًا جميلاً للعائلات العراقية. تتجمع العائلات حول هذه المناطق الرائعة، وتقضي أمسياتها بين الجمال الطبيعي والترفيه، وكانت حدائق قناة الجيش الغناء إضافة رائعة إلى هذه الخريطة الترفيهية. كل هذا كان يعكس تطلعات المدينة نحو التواصل والترويح، حيث كانت العائلات تستمتع بأمسياتها الصيفية في هذه المواقع الجميلة والمجانية، مما جعل هذه الفترة ذهبية بالنسبة للعراقيين.

كثير من هذه الأسر كانت تقضي وقتًا طويلاً في دور السينما حتى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل في العراق. كانت تجربة المشاهدة في السينما العراقية تعتمد على نظام الأوقات، حيث تبدأ بعض العروض في الصالات من الساعة التاسعة صباحًا، بينما تنطلق أخرى في الساعة الحادية عشرة صباحًا، وتتابع العروض حتى الواحدة بعد منتصف الليل. في تلك الفترة، كان الاحترام يسيطر على الحياة الاجتماعية، ولم تكن ظواهر مثل التحرش واللغة البذيئة بارزة كما هو الحال في الوقت الحالي. يتغير هذا المشهد مع بداية تأثير أخلاق السياسيين وتدخلهم في الحياة الاجتماعية. كانت روائح السمك المطهو ومشاهد الشواء جزءًا من الحياة اليومية في أبي نؤاس، ولكن كانت تلك التجارب تشكل تحديًا للفقراء الذين لا يمكنهم بسهولة تحمل تكاليف وجبات السمك في هذه الأماكن.

عندما تصل العائلات إلى مدينة أبي نؤاس، يحملون معهم طعامهم وقوارير “الشربت”، قبل أن يُطبق على الجميع نظام “الفلافل” الذي أحدث شقًا في أمعاء العراقيين حتى اليوم. يظهر أبو نؤاس بمظهر مقفر وقليل الحركة في العاشر من محرم وفي الأربعين من استشهاد الإمام الحسين. حتى المدمنين على الخمر مثل أبو سامي، المسيحي الذي لا يفارق الخمر، يشعرون بالحزن في تلك الأيام. حديقة الأمة، في هذه الأيام، لا يمكن وصفها إلا بمفهوم العواصم الغربية، حيث يحتفلون بالطفولة والجمال والخضرة والمياه

تحيط الحديقة بأشجار كبيرة من اليوكالبتوس، وتحتها أسوار من الأس المرتب يُشرف عليها عمال يقومون بتشذيبها وسقيها يومياً. في وسط الحديقة، تبرز بحيرة صناعية مضيئة بأنوار ليلية، وعلى الجسور المتصلة بالبحيرة يتسابق الأطفال حول أسراب البط الملون الذي يُسبح، يستمعون إلى أصواته ويطعمونه بحبات “الشامية”. في حديقة السعدون، تجتمع العائلات بعد صلاة المغرب حول الأشجار الكثيفة والعشب الأخضر، يُقلل الأهالي حضورهم في أيام الامتحانات، حيث يجلبون الشاي والمرطبات والطعام إلى الطلاب المُنهمكين في المذاكرة. رغم التأثيرات السياسية، إلا أن هذه التجمعات الودية تظل قوية ومستقرة، مقاومة للتأثيرات السياسية بعد العام 1968 وخاصة بعد عام 1979.

قناة الجيش كانت متعة حقيقية للمارة أو الراغبين في الاستراحة على أرائك متباعدة، حيث وضعت للطلاب الذين ينشدون الدراسة مكانًا جميلًا للاستراحة، حيث يجدون أنفسهم غالبًا مندفعين للسباحة في مياه القناة الجميلة والنظيفة. كان منظر الأشجار الكثيفة مهيبًا، يمتد من صدر القناة حتى جسر ديالى. احترم الناس قوانين البداهة عندما كان المكان نظيفًا ويُحترم زواره ورواده. ومع استيلاء المنفلتين على السلطة، ضاعت براءة السياحة والترفيه في العراق، حيث تحولت أماكن السياحة إلى مرتع لعبث السلطة وأذرعها، مما أثر سلبًا على جاذبية هذه الأماكن.

بعد سقوط النظام، انكفأت السياحة في العراق، وأصبحت الأماكن الترفيهية نادرة بسبب البناء العشوائي الذي أدى إلى فقدان حدائق البيوت. متنزه الزوراء، على وجه الخصوص، أصبح ذو سمعة سيئة بين العائلات العراقية التي تتجنب زيارته. وبعد التعمير في أبي نؤاس، أصبحت قضية الأمان هاجسًا يمنع هذه العائلات من الاستمتاع بأماكن الترفيه، حيث تشكل حاجزًا يعيق الاستمتاع البريء والضروري للوقت والحياة.

أعتقد أن إقامة متنزهات سياحية ضخمة في المدن التي يتوافد عليها ملايين العراقيين والعرب والمسلمين هي فكرة ضرورية وملحة. مثلًا، مدن مقدسة مثل سامراء والنجف وكربلاء يمكن أن تصبح مدنًا ذات جمال وخضرة بجوار المراقد المقدسة التي يعتبر زيارتها والحج إليها جزءًا من سعادة المسلمين، وفرصة لتفريج الهموم والكروب. أيضًا، ظروف الأمان في المدن المقدسة تسمح لشركات أجنبية بالتنافس في إنشاء حدائق موافقة على مواصفات تحفظ قدسية المكان وجمالياته، وتبني روابط إيجابية ومحبة.

مطارات أنيقة وسريعة تشكل جزءًا أساسيًا من الخدمات المفترض توفرها هذه المدن، وبالنسبة للعاصمة بغداد، مترو العاصمة أصبح ضرورة بسبب توسع المدينة وكثرة الزحام وصعوبة التنقل في شوارع لم تتطور منذ ثلاثين عامًا، وتضاعفت خلالها أعداد السكان والسيارات بشكل متسارع.

في صيف بغداد الحار والصعب، يمكن للقطاع الخاص أن يقوم بإنشاء مسابح تتوافر فيها شروط السلامة الأخلاقية والصحية، بالإضافة إلى صالات التزلج على الجليد، مما يوفر للأطفال والشباب بيئة من السعادة والمرح البريء، ويبعدهم عن مسببات التلوث الأخلاقي المحيط بالعالم، خاصة على شبكات التلفزيون والإنترنت.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *