في عالم الفن، يظل قبول الفنانين وأعمالهم أمرًا صعبًا، إذ يواجهون تحديات مجتمعية في محيط العشيرة وأيضًا في المحلة، والتي تحل محل العشيرة في المدينة. يتعرض الفنانون الذين اختاروا هذا الطريق للصراع مع أفراد عائلاتهم ومجتمعهم الأوسع، وكما تُظهر نماذج أولئك الذين اختاروا هذا المجال، فإنهم يواجهون تحديات كبيرة.
في كل قصة لمن اختاروا هذا المسار، نجد أوجاعًا متشابهة، حيث يخرجون خارج حدود تقاليد العائلة والعشيرة أو المحلة. يظهر أن الكثيرون منهم ينحدرون من عوائل متدينة أو متصوفة، ومع ذلك، كما قال العالم الاجتماعي العراقي علي الوردي، “الحضارة هي تفكير وثقافة وسلوك، وليست مجرد لباس ومسكن وحاجيات”.
فنحن الآن أمام قصة فنانة أخرى اعتبرت هذا المسار وتجاوزت نفس المعاناة.
خضير الشبلي، الملقب بـ “الشبلاوي”، عاش في محلة البوشبل في بغداد، وهو أحد أفراد عشيرة الكروية القيسية. وُلد في عام 1929 في محلة ألبو شبل، حيث تأثرت حياته بفقدان والده الذي ترك أثرًا كبيرًا عليه. اضطر لترك مقاعد الدراسة والعمل في مقهى شاؤول في الشورجة، الذي كان يجتمع فيه عدد من المطربين والفنانين.
عاش خضير في أوقات صعبة، حيث تناوبت رغبته في تعلم الموسيقى والغناء مع معارضة عائلته التي عارضته بشدة. عمل كعازف في ملهى شهرزاد ببغداد في عام 1950، وشهدت إحدى الليالي حادثة مروعة حيث أُطلقت رصاصات على المسرح، وكانت محاولة لترويعه بسبب العمل الذي كان يقوم به والذي اعتبر أنه يسيء إلى سمعة العائلة. رغم هذه التحديات، استمر خضير في ممارسة فنه حتى نهاية حياته.
في عام 1946، انضم الفنان الشبلي إلى معهد المواساة للمكفوفين، حيث تعلم أساسيات الإيقاع والنوتة بمساعدة صديقه سلمان البصون، الذي كان يجيد العزف على القانون. بفضل جهوده الكبيرة في تعلم المقامات وفنون العزف، حصل الشبلي على آلة القانون، وكانت هذه بداية رحلته.
في عام 1947، شارك الشبلي في إحدى حفلات المطربة سليمة مراد، وكانت هذه أول تجربة له. وفي المحاولة الثانية، عزف مع محمد القبانجي في حفل أقيم بنادي المحامين. وفي تلك الفترة، كان يتردد إلى الإذاعة بصحبة أصدقائه، حيث كانت الإذاعة تعمل بفريق صغير يضم حوالي ثلاثين عاملًا، منهم ستة عازفين، أغلبهم من اليهود.
في عام 1948، هاجر معظم العازفين اليهود، وفي أعقاب ذلك، دعا القبانجي جميل بشير لتشكيل فرقة موسيقية خاصة بالإذاعة. تم تشكيل هذه الفرقة في عام 1949 وضمت جميل بشير، خضر الياس (عازف ناي)، منير بشير (عازف عود)، حسين عبد الله (عازف طبلة)، وخضير الشبلي (عازف قانون). من ثم، توسعت رقعة بث الإذاعة في عام 1952 عبر خط يصلها بلندن، حيث كان الشبلي أول من افتتح هذه البثوث عزفًا منفردًا على القانون، ليُتَبَع ذلك بأداء منفرد لناظم الغزالي.
خضير الشبلي، عازف القانون، كان رفيقًا معظم المطربات والمطربين في أغانيهم وحفلاتهم، ومن بينهم حضيري أبو عزيز. يُذكر أن الشبلي قد رافق حضيري أبو عزيز في رحلته الفنية إلى لبنان عام 1954 للمشاركة في حفل غنائي. كان من بين الحضور نجوم كبار مثل فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ. حضور رئيس جمهورية لبنان أضفى على الحفل أبعادًا خاصة. في هذا الحفل، قدّم حضيري أبو عزيز أغنيته الشهيرة “أحمد يا مصائب الله”، وحظيت بإعجاب كبير. وكانت صديقة الملاية تصر على وجود الشبلي معها برفقة الفنان جميل بشير.
الشبلي لفت أنظاره في وسطه وبيئته، وتبعه العديد من أبناء محلته في مجال الفن والموسيقى. أثّر خضير أيضًا في بيئته المحلية، وتبعه آخرون في عالم الفن والموسيقى، حيث لعب دورًا حيويًا في تكوين الفرق المحلية، بما في ذلك فرقة جلاوي التي شارك فيها شباب المحلة كعازفين هواة، معتمدين على إبداعاتهم.