قبل نحو عشرين عامًا أو أكثر، كنا جماعة من الأصدقاء نستجيب لأحداث بلدنا واحتياجاته الضخمة، على نحو يتناغم مع اندفاع أبناء جيلنا نحو تلك الاحتياجات والرغبة في رفع بعض الأعباء. ندرك جميعًا التخلف الذي تركته الحرب العالمية الأولى في مختلف جوانب الحياة، والمصائب والآثار السلبية التي جلبتها الحرب العالمية الثانية. فقد تمزقت بلادنا بوحشية بفعل جيوش المتطلعين الذين سعوا للاستفادة من ثرواتنا وتحقيق مصالحهم الاستراتيجية، مع تحويل العراق إلى جسر لتحقيق تلك الرغبات والتموقع العسكري لها.
وتركت مشاكلنا التي لا تهمها والتي لا تتعارض مع مصالحها تسارعًا، حيث غابت بعيدًا عن أعينها الأمية المنتشرة في مدننا وكذلك الجهل والمرض الذي انتشر في قرانا. وكل ذلك كان يُعالج على نحو سطحي بحلول غير جذرية، كانت تلك حلولًا تفتقر إلى التفاعل الجاد مع القضايا الجوهرية.
بعد انكشاف الأزمة العالمية بانتهاء الحرب العالمية الثانية وعودة الحياة إلى مسارها الطبيعي عام 1945، قررت نخبة من الأصدقاء الالتحاق بالخدمة العامة للمساهمة في مجالات مفيدة، ولم يكن هناك مجال أفضل من خدمة التعليم ونشر الثقافة لبلدنا المحتاج لمكافحة الجهل. فقررنا دعوة الأميين من جيراننا لتدريسهم، وجمعنا في جامع الخلاني وكان السيد محمد الحيدري مجيبًا رائعًا لدعوتنا. قدّم لنا غرفة في جامع الخلاني وبدأنا ننشر دعوتنا، وتجاوب الناس بشغف واهتمام. وكان السيد الحيدري – حفظه الله – شريكًا رائعًا، وقدم لنا دعمًا كبيرًا في نشر الثقافة وتوفير البيئة التي تُسهم في التعلم.
تألق السيد الحيدري في إلقاء ندوة مُشرقة، وأعرب عن رغبته الكبيرة في نشر الثقافة وتأسيس مكتبة عامة في جامع الخلاني، كمركز لنشر الثقافة وتركيز دعائمها، مستندًا إلى تحفيز شغف الشباب وتوحيد الجهود لخدمة الآخرين. وقد شرح لنا فكرته النيرة في توحيد الجهود لجمع الكتب والتبرعات لإنشاء مكتبة تكون منارة للثقافة ومخزنًا للمعرفة.
بعد اقتراح السيد الكريم، سطعت أفئدة الحضور بإشراق، حيث تدفقت تبرعاتهم بكرم. وقام السيد الحيدري بالتبرع بمكتبته، مبتكرًا بداية لإقامة “مكتبة الخلاني العامة”. أيضًا، شارك الأخوة في الدعم، وبفضل تلك الليلة المباركة، تم تحقيق حلم جمع الكتب في مكتبة زخرفت رفوفها بسخاء. وكرّم السيد وائل السعيدي والسيد يحيى الباجه جي بتقديم مكتباتهم، وساهمت عائلة الفقيد محمد جعفر أبو التمن بكتب نادرة وقيمة، معززين بذلك الترابط الطيب والإسهام الكريم في إثراء المعرفة.
مع تضاعف نشاطنا وتجاربنا الكريمة، ازداد إيماننا وتفاعل الناس مع الدعوة الخيرة. وفي غرفة مكتبتنا، تحوم الكتب من كل اتجاه، دفعتنا للبحث عن حلاً للكتب المكدسة. بدعم من السيد الحيدري، اقترح استخدام أرض خربة، ورغم تحديات الحرب وندرة المواد، تم اتخاذ قرار ببناء قاعة وخزانة. بالرغم من التحديات، عزمنا واصلنا المشروع بروح تفاؤلية، وبفضل دعم المجتمع، تم تأمين التحويل وشراء الحديد. وفي وقت قصير، تم رفع الجسور الحديدية بتضافر الجهود، تجسيدًا للروح الخيرة والتفاني، وأصبحت جاهزة لرفع قاعة المكتبة وخزانتها.
أتوجب عليّ أن أشير إلى التحديات التي واجهت مشروعنا بكل وضوح. لقد أظهرت هذه التجربة أن إهمال المشاريع الخيرية العامة يكمن في انحسار حماس المؤسسين ورحيلهم في النهاية، وعدم تقديم الدعم المستمر كما وعدوا. في بداية أي مشروع، يتحمس له جمهور الخير، وتندفع النخبة الطيبة لدعمه. لذا، يجب أن يكون ذكاء المؤسسين في استغلال هذا الحماس والاندفاع.
لكن مشروعنا، مكتبتنا الشابة، شهد انصراف كل فرد لبناء حياته الشخصية، وضغوط الحياة اليومية ألهمتهم عن الالتفات للقضايا الاجتماعية. بدأنا نزور المكتبة للمظهر فقط، وتراجع حماسنا، وتركنا المكتبة على عاتق السيد محمد الحيدري وحده. بفضل صبره وحكمته، لم يلقي اللوم على أحد منا، ولم يتخلى عن المشروع. بفضل صبر المؤمنين، نجحت مكتبتنا، وشهدنا رفع “الجسور الحديدية” بجهود المتبرعين، تستقر فوق المكتبة، حاملة معها تراثًا ثقافيًا ضخمًا يتعدى 26,000 مجلدًا في مختلف فنون الأدب والعلم والمعرفة.