من محاسن الايام ان يطلع محرر هذه الصفحات على احاديث للدكتور مصطفى جواد، العالم واللغوي والمؤرخ، عن صفحات من حياته، وهي مسجلة بصوته، وهذه الاحاديث قدمتها أسرة مصطفى جواد للباحث الاستاذ توفيق التميمي عندما كان يروم انتاج فيلم وثائقي عنه، ولم يكتف التميمي بذلك، بل زودني بنصوص هذه الاحاديث.
ولا ريب انها وثائق اصيلة، جديرة بالتنويه والتحقيق، لان مصطفى جواد كان منبسطا في احاديثه، ويحاول تقديم ما هو منسي او مطوي من حياته. فضلا عن ما عرف عنه من صدق الرواية وطرافته. واليك من هذه الاحاديث:
يقول الدكتور مصطفى جواد:
وفي سنة 1934 ميلادية سافرت الى باريس واردت الدخول في كلية السوربون من جامعة باريس فلم تلق شهادتي في مدرسة دار المعلمين الابتدائية منهم قبولاً، فاستعنت بمستندات علمية اخرى وترجمتها الى الفرنسية، وساعدني ايضاً شيخنا الاستاذ لويس ماسينيون المستشرق الفرنسي المشهور فقبلت في كلية السوربون لغرض اعداد شهادة الدكتوراه فاخترت موضوعا تاريخيا عنوانها (سياسة الدولة العباسية في اواخر عصورها) وقبل ان اتم عملي كانت مدة التعهد وهي ثلاث سنوات قد انتهت فأوعز الدكتور فاضل الجمالي وزير الخارجية آنذاك باعادتي للتدريس ببغداد بعد أن أمضيت ثلاث سنوات في باريس ادرس في جامعة (سوربون)، لكنني عدت من دون أن أكمل رسالتي الدكتوراه لكونه اي الجمالي كان يكره شهادات الدكتوراه في وزارة المعارف وبعد عودتي الى بغداد عرضت شكواي على رئيس الوزراء الذي كان يومئذٍ جميل المدفعي رحمه الله وعرضت عليه غبني ايضا على الشاعر الكبيرالاديب الذائع الصيت محمد رضا الشبيبي رحمه الله وكان آنذاك وزير المعارف فوافقا على تجديد التعهد بعثتي لمدة سنتين أخريتيين وجددته فسافرت الى باريس مرة أخرى عودا على بدء وأكملت رسالة الدكتوراه اي اطروحتها كما يقولون واعلنت الحرب العامة الاخيرة فلم تتهيأ لي مناقشتها ولا طبعها ولا تزال مخطوطة غير مطبوعة ولا مترجمة، ولما رأينا ان هجوم الالمان الجوي على باريس قد بدأ أيقنا بان الحرب ستطول والبقاء في فرنسا جدا خطر وسيئ العاقبة، فعدت الى العراق بالقطار مع افراد من الطلاب العراقيين قبل اعلان ايطاليا الحرب بايام، ووصلت الى بغداد وبقيت اشهراً من غير تعيين لاني نقلت كتابا مقدما الى بعض الوزراء الذين لا يقدرون طلب الحقيقة العلمية حق قدرها، بعدها عينت في دار المعلمين العالية مدرسا او معلما او استاذا التي تسمى اليوم كلية التربية وذلك في سنة 1939 ميلادية ثم دعيت لخدمة الاحتياط فسأموني وسأمتهم حتى تخلصت وعدت الى للمحاضرات في الدار المذكورة.
في العام 1942 دعيت لتعليم (الملك) الصغير فيصل الثاني اللغة العربية ابتداءً من القراءة الخلدونية و كان اهمل تعليمه للغة العربية وامروني بتعليمه لمدة سنة واحدة فبدأت بتدريسه في السنة السابعة من عمره وعلمته القراءة والكتابة، واذكر عندما قرر اهلوه دراسته في انكلترا امرت والدته رحمة الله عليها وكانت خير امرأة في الاسرة باستصحابي اليها فلم استطع الاباء وكنت اود جاهدا ان اجعله ملكاً يشبه صغار الملوك الذين قرأت سيرهم في التاريخ الاسلامي فاعجبتني وكان مترددا في طلب حاجاته المدرسية وكان يشكو من ذلك، وقلت له ذات مرة انت ملك فقل لهم هاتوا كذا وكذا فلا يستطيعون رفضه، فلما قال لهم بلهجة الاّمر هاتوا كذا وكذا، قالوا له ليس اسلوب كلامك، فمن علمك هذا النوع من الطلب، وهو لضعف ملكة الاستقلال في نفسه، قال لهم الذي علمني ذلك هو مصطفى جواد فحقدوها علي واعادوني الى التدريس في دار المعلمين العالية في آخر السنة الدراسية الاخيرة خوفا من تربية روح الاستقلال بنفسه.
وكنت لما بدأت تدريبه (يقصد الملك فيصل الثاني) وطلبت بعدها نقلي الى مديرية الاثار لصعوبة الجمع بين تدريسي في دار المعلمين العالية وتعليم الملك الصغير،فنقلت الى وظيفة ملاحظ فني ثم رايت سوء الادارة فيها وبقاء راتبي المالي على حاله، فرجعت الى دار المعلمين العالية وبقيت فيها الى ان انشئت جامعة بغداد وسميت انذاك كلية التربية.