قلعة صالح العراقية سوق على هامش الشواخص الأثرية

قلعة صالح العراقية سوق على هامش الشواخص الأثرية

قلعة صالح، واحدة من أقدم الأقضية العراقية، تتبع محافظة ميسان في جنوب العراق، حيث تأسست عام 1860م. تقع المدينة بين ضفتي نهر دجلة على بعد حوالي 400 كم جنوب بغداد، وتبعد 47 كم عن مدينة العمارة، مركز محافظة ميسان. يبلغ عدد سكانها حالياً أكثر من 130 ألف نسمة. قلعة صالح تمثل نموذجاً للتاريخ العراقي بطبقاتها المتعددة، حيث تحتوي الطبقات السفلى على آثار مدينة رافدينية قديمة، وتعكس التطور التاريخي للمنطقة. يشير وجود مقام أحد أهم أنبياء اليهود، النبي العزير، إلى الفترة بعد السبي البابلي.

وفي تسجيلات المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني في كتابه “العراق قديماً وحديثاً”، يشير إلى قرية العزير، التي تقع على بعد 33 كم جنوب قلعة صالح، وتحدها لواء العمارة ولواء البصرة. تتميز هذه القرية بوجود مقام يُقال أنه للنبي عزير الكاتب، كان من الرُّوَّاد لشريعة بني إسرائيل. تعكس الطبقات السفلى في قلعة صالح بقايا مدينة رافدينية قديمة، وتمتد الآثار إلى المدن العربية التاريخية في الطبقات الأعلى. يظهر الوصف الأوروبي في القرن السابع عشر، ويشير إلى ظهور المدينة الحالية التي تأسست في ستينيات القرن التاسع عشر وتستمر حتى يومنا هذا.

الاسم والاصل والنشأة

يُشير حطاب العبادي، مؤرخ مدينة قلعة صالح، إلى أن المدينة قد شُيدت على أطلال مدينة عربية قديمة تُعرف باسم المذار، والتي كانت عاصمةً لدولة ملوك البحر على الضفة الشرقية لنهر دجلة. يتميز الموقع بتجمع العديد من الآثار القديمة، ويعتبر فتح المدينة من قبل عتبة بن غزوان عام 14 هـ. يتضمن أحد أعلام المدينة محمد بن أحمد بن زيد المذاري وأبو الحسن علي بن محمد بن أحمد بن الحسين المذاري. استُشهِد في المدينة عبيد الله بن علي بن أبي طالب (ع) في معركة مصعب بن الزبير والمختار الثقفي، وجُعل قبره مقامًا ومزارًا. في عام 514 للهجرة، تُوفي أحد سكان المدينة البارزين، أبو القاسم بن علي الحريري، مالك مقامات الحريري وإمام اللغة والنحو، ودُفِن بالقرب من مرقد عبيد الله بن علي.

تعكس مدينة قلعة صالح تاريخاً طويلاً يمتد إلى القرن التاسع عشر، والتي استمدت اسمها من الرجل الذي كان لقلعته أثر كبير في نشوء هذه المدينة الحديثة. وقد أثارت تسميتها جدلاً، إذ نقل الشيخ علي الشرقي في مجلة “لغة العرب” وجهات نظر متباينة حول مصدر الاسم، حيث يُربط الاسم بصالح، زعيم آل بو محمد، الذي قام بتأسيس القلعة لحماية مزرعته وقبيلته في بطائح دجلة.مدينة قلعة صالح تنطوي على تاريخ طويل يرتبط بزعيم من آل بو محمد، حيث أسس قلعتها لحماية مزرعته وقبيلته في بطائح دجلة، وهي حكاية شائعة بين زعماء العراق. جاورتها العديد من الأغراب، ما جعلها تتحول إلى بلدة نابضة بالحياة. تقع على أنقاض بلدة المذار الشهيرة بين العمارة والعزير، وكانت تابعة لمملكة المنتفك في القرون الوسطى، لكن في القرن الثالث عشر، قرر أحد مشايخ آل السعدون التنازل لحكومة بغداد عن السيطرة على تلك الأنحاء.

على الرغم من إجماع الآراء حول تاريخ قلعة صالح، إلا أن الشيخ علي الشرقي ظهر كمتفرد في رأيه حول تسمية المدينة. بينما أشار المؤرخ العراقي عبد الرزاق الحسني إلى قصة مختلفة في كتابه “العراق قديما وحديثا”. وفقًا للحسني، كان صالح رجلًا نجديًا نال رتبة دللي باشا في عسكر الهايته العثماني. قاد حملة لتأديب قبيلة آل بو محمد، ثم أنشأ قلعة في المنطقة، وربط اسمه بها.

رغم أن المدينة ازدادت أهمية وحجمًا بفضل تأسيس قلعة صالح في القرن التاسع عشر، إلا أنه يُشير إلى وجود المدينة من قبل، ولكن بحجم أقل. هذا ما أكده الرحالة الفرنسي جان بابتيست تافرنييه في “الرحلات الست” خلال رحلته على نهر دجلة عام 1678. حيث أشار إلى مرورهم بمدن عدة أثناء رحلتهم من بغداد إلى البصرة.في كل ليلة خلال رحلتهم على نهر دجلة عام 1678، كانوا يرسون فوق الماء ويتناولون طعامهم في السفينة. وعند وصولهم إلى القرى، يرسلون خدمهم لشراء الطعام من الضفة بتكلفة زهيدة. مرت المجموعة بعدة مدن، من بينها العمارة، والتي تضم قلعة مشيدة باللبن، والشطرة، والمنصورية، والمجر، والعزير، والقرنة. يبدو أن مدينة قلعة صالح كانت تُعرف في ذلك الوقت بالشطرة، نتيجة لشطر النهر الذي يمر بها، ومن ثم أصبحت تُعرف باسم شطرة العمارة لتمييزها عن شطرة المنتفك.

اقتصاد المدينة

بدأت مدينة قلعة صالح كقلعة عسكرية لقمع التمردات العشائرية في أهوار العراق، حيث أسكن صالح النجدي عساكرها. تحولت الحامية العسكرية تدريجيًا إلى مركز جذب لمختلف شرائح المجتمع جنوب ووسط العراق، متحولة إلى سوق قبلي لتبادل المنتجات الزراعية والحيوانية. قصة نشأتها تروي كيف جاء صالح النجدي بلفيف من الإيرانيين، أسسوا قرية على ضفتي نهر المجرية، ومع مرور الوقت أصبحت قصبتهم مركزًا قضائيًا تابعًا للواء العمارة. استمرت المدينة في النمو والازدهار، ووصل تعداد سكانها عام 1947 إلى أكثر من 78 ألف نسمة.

تتميز أراضي قضاء قلعة صالح بالخصوبة، مما ساهم في تطوير قطاع الزراعة بها، خاصةً مع وجود نهر دجلة كمصدر مهم للري. كان هناك جدول صغير يسمى الكرمة يستخدم لري المزروعات، ولكنه جف في عام 1936. ازدهرت المدينة بفضل دور الصناعيين من طائفة الصابئة المندائيين ومشاركة التجار اليهود في تعزيز الاقتصاد المحلي. كمركز للتجارة، كانت قلعة صالح تستقبل منتجات منطقة الأهوار الزراعية والحيوانية. يُذكر أيضًا أن المدينة أصبحت موطنًا للعديد من الأديان، حيث تعايشت أسر مسلمة ويهودية وصابئية، مما أدى إلى تنوع ثقافي مميز.

في دراسته الفريدة حول سكان الأهوار في مدينة الجبايش، يُقسم أستاذ الأنثروبولوجيا العراقي د. شاكر مصطفى سليم السكان حسب ظروف الحياة إلى قسمين. الأول يشمل جامعي القصب من عشائر البطاط والنوافل وبيت رذيل والبو غنام في هور الكسارة، وهم من عشائر آل بو محمد. أما القسم الثاني، فيشمل رعاة الجاموس من بيت نصر ألله وآل بو غنام في هور الحويزة، وهم أيضًا من عشائر آل بو محمد. يتحدث حنا بطاطو في دراسته عن عشائر مثل الفريجات وبني مالك الذين اعتادوا على صيد السمك أو زراعة الأرض أو تربية الجاموس أو حياكة الحصران. يُشكل المزارعون الغالبية في سكان الأهوار، وتعتبر الزراعة النشاط الاقتصادي الرئيسي لهم. تحديداً، يركزون صيفًا على زراعة الرز والذرة، وشتاءً على زراعة الحنطة والشعير. يعيش سكان الأهوار في جزر صغيرة، سواء كانت طبيعية أم اصطناعية بنيوية تتكون من طبقات من القصب والبردي، يعرفونها باسم “الجبايش”. يبنون منازلهم من القصب، وكانت وسيلة نقلهم هي القوارب الرفيعة المعروفة بالمشاحيف. يعتمد اقتصاد المناطق الأهوارية على زراعة الرز وصيد الأسماك والطيور، بالإضافة إلى تربية الجاموس التي تُشكل ثروة حيوانية هامة للأهالي.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *