يحتفل العراقيون هذه الأيام بيومهم الوطني، والذي يتزامن مرور 90 عاما على خلاص البلاد من النفوذ البريطاني، وهو يعدّ أحد أكبر الأحداث وأهمها في تاريخ العراق الحديث.
وبعد انتظار طويل قرر العراق عام 2020 اختيار تاريخ استقلاله، والخلاص من الانتداب البريطاني في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1932، يوما وطنيا تحتفي به البلاد سنويا.
واعتبر المحلل والأكاديمي عقيل عباس اختيار هذا اليوم، في عهد حكومة الكاظمي ليكون العيد الوطني للبلاد، هو اختيار صائب وصحيح.
وكشف -في حديثه للجزيرة نت- أن تأخر تحديد العيد الوطني تسبب بإحراجات عندما كان العراق يتلقى تهاني رسمية من دول كثيرة في 17 يوليو/تموز، وهو العيد الوطني للنظام السابق.
وبيّن أن نقاشات طويلة دارت داخل أروقة الحكومة، وشملت عدة اختيارات لتكون العيد الوطني، منها يوم 23 أغسطس/آب يوم تتويج الملك فيصل الأول في بغداد عام 1921، والبعض اقترح اعتماد 30 يونيو/حزيران 1920 يوم انطلاق ثورة العشرين، لكن السعي كان للبحث عن تاريخ لا يثير الأحاسيس المذهبية والعرقية في بلد فيه انقسامات كثيرة.
وأشار عباس إلى أن مقترح اعتبار 9 أبريل/نيسان يوما وطنيا لاقى رفض أغلب القوى السياسية “فرغم فرح كثير من العراقيين بإسقاط نظام صدام حسين، لكنه في آخر المطاف هناك قوة عسكرية أجنبية قامت بغزو العراق، وأطاحت بحكومة عراقية رغم كونها حكومة ظالمة” على حد قوله.
ويعزو سبب تأخر الاتفاق على يوم وطني إلى الصراعات السياسية المستمرة منذ عام 2003، والتي أنتجت حكومات لم تحقق استقرارا سياسيا يسمح لها بمناقشة هذه الأمور، وهذا لا يقتصر على العيد الوطني فقط، بل يشمل العلم والنشيد الوطني، وكل الرموز المرتبطة بالدولة.
من جانبه، قال الكاتب والإعلامي محمود النجار “نحن كعراقيين ننظر إلى هذا اليوم التاريخي، صراحة، بعين مؤسفة لما يحدث في الدولة العراقية التي كانت في يوم من الأيام مهد الثقافات وللعلم، وهي تمتلك أقدم حضارة تاريخية مثل حضارة وادي الرافدين والسومريين وآشور وبابل”.
وفي حديثه للجزيرة نت، يعرب النجار عن أسفه الشديد لما تشهده الدولة فهي منذ تأسيسها عام 1921 وحتى هذه اللحظة تعاني من أزمات سياسية كبيرة، وانقلابات عسكرية، ومشاكل أمنية، وتدخلات أجنبية وصولا إلى عام 2003 “وبداية انهيار الدولة بشكل كامل لمؤسساتها الاقتصادية والسياسية والأمنية والاجتماعية”.
ويصف النجار هذا اليوم بمثابة جرس إنذار جديد للعراقيين بأن يعودوا إلى ما كانوا عليه عبر التاريخ القديم وعصر الحضارات يوم كتبوا أول القوانين للبشرية، وأن تكون هذه المناسبة بداية لمشروع إصلاحي جديد في العراق.
ولا يعتقد الكاتب أن العراقيين يعتبرون هذا اليوم يوم احتفال لأنه تحول إلى يوم تقليدي وكلاسيكي “وما زال الشعب العراقي يبحث عن وطن كريم حرّ يحمي الحريات وحقوق الإنسان ويقوده رجال مخلصون لا يسلمون البلد لأي دولة أخرى تحاول أن تتحكم فيه وتؤثر عليه”.
وأعرب النجار عن أمله في أن يحتفل العراقيون باليوم الوطني وسط ظروف مزدهرة بأمان وسلام ووطن حر وكريم يكون فيه تمثيل سياسي حقيقي لشباب وطنيين مخلصين مختصين في مجالات السياسة والقانون والإعلام والاقتصاد، على أمل أن يغيروا الوضع السنوات القادمة.
بدورها، تقول أستاذة التاريخ الحديث والمعاصر الدكتورة علياء الزبيدي إن العراق حصل على استقلاله وسط ظروف عصيبة، وبعد رحلة طويلة من النضال بدأت منذ ثورة العشرين.
وتضيف للجزيرة نت أن العراق بعد استقلاله تخلص من عبء الانتداب البريطاني، وأصبح الدولة رقم 57 في العالم باستقلال وصلاحيات كاملة وفقا للقانون الدولي بعد 12 عاما من الخضوع للانتداب.
وتلفت إلى أن العراق آنذاك بدأ يرسم خريطة حكم جديدة للتخلص من سطوة الانتداب البريطاني، رغم تباين رغبات الشعب واختلاف تطلعاته، ولولا حكم الهاشميين، وكذلك حكم رئيس الوزراء نوري السعيد، لما استطاع العراق أن يصل لهذه المرحلة من التأسيس وتحقيق الاستقلال بدخوله إلى عصبة الأمم.
وأشادت الزبيدي بما حققه رعيل الحكم الأول للعراق منذ عام 1921 إلى 1958 من خلال العديد من المنجزات في مقدمتها توحيد البلاد، وتثبيت عاصمتها العباسية بغداد، واستعادة ولاية الموصل من تركيا “بفضل دهاء المفاوضين العراقيين في العهد الملكي”.
وحول سبب استمرار التدخلات الدولية في شؤون البلاد رغم مرور عقود على استقلاله، ترجع الزبيدي ذلك لكثرة خيرات العراق، وخاصة النفط الذي تحول من نعمة إلى وبال جعل دول الاستعمار تتكالب عليه.
ويرى أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور سعد نصيف جاسم الجميلي أن ما بين موعد تأسيس الدولة والاحتفال باليوم الذي استقل فيه العراق 11 عاما، وبين الموعدين مساحة ضائعة من الوقت والجهد، الذي مضى على الدولة التي تحتفل بعيدها الوطني المئوي من دون تحضيرات تذكر، في حدث لا يتكرر مرتين في عمر الشعوب.
ويضيف للجزيرة نت أن ولادة الدولة العراقية وحضورها في الساحة الدولية، بهذا المحفل الدولي السياسي المتمثل بعصبة الأمم، أراد نزع السلاح من أيدي الدول المتحاربة أوائل القرن العشرين.
وينوه الجميلي إلى أنه -وعلى مدى نصف قرن تقريبا- عمدت حكومات العهد الجمهوري إلى تغافل الاحتفال بـ “اليوم الوطني العراقي” بتاريخ 3 أكتوبر/تشرين الأول 1932، وإبراز الثورات الرئيسة أعوام 1920 و1941 و1958 على الإنجازات السياسية التي تحققت في فترات العهد الملكي.
ويعزو أسباب عدم ذكر هذا التاريخ إلى ارتباطه المباشر بالاستعمار البريطاني الذي كان يحدد الأبعاد في عملية الاستقلال، كما أن العراق لم يكن فعلا يمتلك السيادة والإرادة الحقيقية حتى بعد نيل ذلك الاستقلال المزعوم، غير أن هذا لا يمنعنا من القول إن “اليوم الوطني العراقي” تعرض إلى إجحاف شديد وغبن لا داعي له، وذلك بسبب النزعة الثورية والتشدد في المفاهيم الوطنية.
وعلى مدى العقود التسعة الماضية، مرّ العراق بالعديد من المحطات والمنعطفات التاريخية البارزة والتي انعكست تراكماتها لترسم ما آلت إليه أوضاع البلاد اليوم.
وحول ذلك استذكر أستاذ التاريخ بشار فتحي العكيدي أولى محطات هذا التاريخ وهي تأسيس الحكومة العراقية عام 1921، وما تلاها من اتفاقيات ومعاهدات مع بريطانيا، وصولا إلى نيل الاستقلال التام عام 1932، ودخول العراق في منظمة عصبة الأمم واعتباره دولة مستقلة ذات سيادة.
ويضيف للجزيرة نت أنه بعد احتلال العراق من قبل بريطانيا عام 1918 ومن ثم فرض نظام الانتداب عليه لاحقا، أصبحت كل مقدرات العراق السياسية والاقتصادية والعسكرية بيد قوات الاحتلال البريطاني، والتي أثقلت كاهل العراق بالعديد من الاتفاقيات السياسية أو المعاهدات التي فرضتها عليه، وبدأ الملك فيصل الأول محاولات مبكرة للتخلص من السيطرة البريطانية إلا أن الإمكانيات التي كانت متوفرة آنذاك لم تكن تسمح بذلك.
وأشار العكيدي إلى أن العهد الملكي شهد مراحل مهمة حتى قيام الجمهورية عام 1958، ودخول البلاد في مرحلة من الانقلابات والصراع الدموي على السلطة حتى عام 2003 وما تلاها من أحداث وتداعيات.
ومن خلال تقييمه لجميع أنظمة الحكم التي مرت على العراق، يرى العكيدي أن أكثر هذه المحطات واقعية كان الحكم الملكي، ورغم كل السلبيات التي رافقته إلا أنه كان يتمتع بتأثير سياسي خارجي كبير سواء لدى الدول العربية أو الأجنبية، فضلا عن أن أغلب الشخصيات السياسية التي عملت بالحكم الملكي كانت محنكة وتعتمد على المهنية في عملها، ولعل أفضل دليل على ذلك التأثير الكبير للسياسة الخارجية العراقية بمنظمة الأمم المتحدة والتي يعد العراق من مؤسسيها عام 1945.
وعن المحطة الحالية التي يمر بها العراق، يؤكد العكيدي ضرورة التجرد من التبعية الخارجية، وأن يكون القرار السياسي بيد أبنائه حصرا، فضلا عن مغادرة السياسيين الحاليين شعور المعارضة وأن يعوا أنهم صناع القرار، مما قد يمهد لبدء صفحة جديدة من الحوار السياسي، بعيدا عن التدخلات الخارجية للوصول بالعراق إلى بر الأمان.