في بغداد، ألتقيت أجاثا كريستي وزوجها الآثاري مالون

في بغداد، ألتقيت أجاثا كريستي وزوجها الآثاري مالون

في يوم من تلك الأيام الأولى لاستقراري في الكلية كنت في “مكتبة مكنزي” أستطلع أخر ما وصل إلى بغداد من كتب انكليزية, وأتحدث إلى صاحبها كريم, وهو عراقي شديد اللطف ورث تلك المكتبة عن أصحابها الانكليز لأنه كان يعمل معهم في أدارتها منذ أيا تأسيسها قبل الحرب العالمية الثانية,

وغدت له خبرة بما يستجد في عالم الكتب الأجنبية مضيفا إلى ذلك تعامله مع بعض الكتب العربية, التراثية منها والعراقية الحديثة. وقد أضحت مكتبته هذه في شارع الرشيد (الشارع الأهم في بغداد يومئذ) ملتقى للمثقفين من عراقيين وأجانب وكلهم على صلة شخصية بصاحبها الذي يتابع اهتماماتهم الفكرية. ويحاول بعناية تلبية ما يطلبون بكتب وقد أبقية على تسمية الكتبة بـ (مكنزي) لشهرة التسمية وتميزها حتى بات هو نفسه تجوزا. يعرف بكريم مكنزي. وبقيت المكتبة معلما من معالم المدينة.

رفعت عيني عن الكتاب الذي بين يدي وإذا بي أرى إلى جاني رجلا يمد يده إلى كتاب آخر. وينظر في الوقت نفسه ألي متسائلا فهتفت ” روبرت ” وأجاب ” جبرا “.

-. ماذا تفعل هنا؟.

-. أنت ماذا تفعل هنا؟.

-. أنا ادرس هنا في كلية.

-. وأنا اعمل في الآثار.

وأستمر السؤال والجواب بيننا فقد كان ريتشارد هاملتون باحثا اركيولوجيا. وكان لبضع سنوات مديرا لمتحف روكفلر للآثار الفلسطينية في القدس حيث كنا نلتقي كثيرا ويجمع بيننا ولع الآثار الفلسطينية والتاريخ القديم وكذلك حب الموسيقى والفن. وبخاصة النحت أو ما كان متوفرا منه في متحف القدس القائم خراج الأسوار. قرب باب الساهرة وبجوار الكلية الرشيدية التي كنت أستاذا فيها لأكثر من أربع سنوات حتى مقدمي إلى بغداد ويبدو أنه في أوائل عام 1948 غادر القدس وانظم إلى بعثة الآثار البريطانية في بغداد وهي مؤسسة تعود إلى بدايات العشرينات كان من أبرز شخصياتها السيد آرثر وولي الذي أكتشف في جنوب العراق مدينة أور أو بالأحرى المقبرة الملكية فيها في حفريات تواصلت من أواسط العشرينيات حتى أواسط الثلاثينيات وكانت من أعجب ما أكتشف من آثار في العالم بما فيها بقايا الملكة العجيبة شبعاد ووصيفاتها العديدات بكامل حليهن الرائعة وألف كتابا مشهورا عن حفرياته تلك بعنوان أور الكلدانيين فلفت أنظار العالم إلى أهمية تلك المدينة العريقة في تاريخ الحضارة الإنسانية.

قال هاملتون: أتعرف ماكس مالون؟

قلت: لا

قال: يجب أن تتعرف عليه أنه شخصية فذة لعلك لا تعرف الكثير عن الآثار العراقية. ماكس مالون يعيد اكتشاف نمرود وأنا اعمل معه. سألته عن نمرود فأجاب: عاصمة الأشوريين في وقت ما. في الشمال كان أسمها القديم كالح مكان ليس كغيره من الأمكنة تعال وزرنا هناك. قلت: ” ياليت! ولكنني جديد هنا وبغداد تشغلني بما يكفي “

قال: ” أسمع سنتعش غدا في دار مالون لماذا لا تتعشى أنت أيضا معنا؟ سأخبر السيدة مالون اليوم. وسوف نتحدث كثيرا عن نمرود… “

ولما وافقت على دعوته, سألته: ” أين الدار”؟. قال: أنها دار الملك علي. أتعرفها؟ في كرادة مريم. على شاطئ النهر مباشرة. أنها دار تركية تعود العهد العثماني, ومن أجمل بيوت بغداد القديمة. وأعطيته ورقة رسم لي عليها خريطة تعينني في الوصول إلى هذه الدار القائمة على الضفة الأخرى من نهر دجلة وقد كانت لمدة ما في العشرينات مسكنا للملك على أخي الملك فيصل الأول. فأطلق اسمه على الدار ملكا بدون مملكة.

في الساعة الثامنة من مساء اليوم التالي دخلت بوابة الدار إلى باحتها المتميزة بطرازها المتميزة بطرازها البغدادي العثماني. والباحة محفوفة بالأشجار والأوراد في وسط بناء من طابقين يصعد إلى الأعلى منهما بدرج خشبي خارجي يؤدي إلى شرفة ضيقة طويلة تمتد مع امتداد الواجهة الداخلية. وتطل عليها أبواب الغرف العليا, كان احدها مفتوحا ومضاء في انتظار القادمين.

صعدت الدرج الخشبي وعلى كل درجة أصيص مزروع في الحال خرج إلي واستقبلني رجل مربوع القامة في أواسط الأربعينات من عمره نشيط الحركة بادي الذكاء وقال لي على الفور السيد جبرا؟ تمام؟ أنا ماكس مالون. وجرني من يدي إلى الداخل ليعرفني على سيدة الدار المسز مالون. التي صافحتني بدورها وقدمتني إلى رجلين آخرين في الغرفة قائلة: ” المستر روبرت هاملتون, الذي تعرفه وقد أفرحني انه دعاك ألينا هذا المساء والمستر سيتون لويد مستشار دائرة الآثار العراقية “. وعندما صافحته مأخوذا بشيء من المفاجأة سألته. هل أنت زوج النحاتة هايدي لويد؟ فأجاب عجيب أتعرفها؟ قلت: التقيتها قبل أكثر من ثلاث سنوات في القدس ولم أنسها وقد قالت لي أنها النحت في بغداد وان زوجها أريكولوجي. قال: والمسز مالون ترمقنا مبتسمة كأنها تنتظر فراغنا من أوليات التعارف, أنه حقا عالم صغير, حدثتني هايدي عنك. عند عودتها من القدس يومئذ وقالت أنك تكتب الشعر وترسم صحيح؟ أعذرني لأنني لم أعرف أنك المقصود عندما ذكر لي روبرت أسمك ولكن من كان يظن اننا سنلتقي هنا. في بغداد.

وسألته ” أين السيدة لويد؟ ” قال: حاليا في لندن كفت عن التدريس في معهد الفنون الجميلة منذ مدة. وسألتني المسز مالون وهي تأخذني إلى مقعدي ما الذي جاء بك إلى بغداد؟

فقلت بإيجاز: حب قديم وماساتنا في فلسطين قالت ” آه نعم. نعم. تعال حدثنا انت على الأقل شاهد عيان “. ويسألني ماكس مالون ماذا أشرب ثم جاءني بالكأس. وقد عادت زوجته إلى كرسيها الوثير وأرجعت المنظرة المعلقة حول عنقها إلى طرف أنفها, والتقطت شلة الصوف والقطعة المحاكة التي ما كادت تجلس حتى راحت تعمل عليها بسناريتها. ومرة أخرى ” نعم حدثنا ما الذي بالضبط جرى للقدس العزيزة “.

خيل ألي أنها في أواخر الخمسينات من عمرها على شيء من السمنة ومتانة الجسم. عريضة الوجه وعلى ثقة من نفسها مع تواضع المضيفة الكريمة واسترسل الحديث بنا عن فلسطين وركزت على ما جرى فيها من قتل وتشريد واغتصاب للأرض من قبل الصهاينة بحيث أخذت السيدة الفاضلة تكرر. وهي تحوك الصوف هذا كله يجب أن يعرفه العالم وبالتفصيل.. يجب أن يكتب المؤلفون عن هذه الفضائع. عن هذه اللا إنسانية التي كنا نقول أن الحرب العالمية ستضع حدا لها أردنا من الحرب أن تنهي الحرب كلها – ولكن يبدو أننا رحنا من جديد نزرع البذور لحروب كثيرة قادمة ما هكذا تصفي الإمبراطورية البريطانية نفسها. ” ولم تكن السيدة الفاضلة تعرف أنني وزميلي دزموند ستيورات. بالاشتراك مع علي حيدر الركابي نذيع في الليالي من إذاعة بغداد أحاديث منتظمة باللغة الانكليزية عن هذه المآسي بالذات. ونستصرخ ضمير العالم ومن له ضمير حي فليسمع وليقل كلمة حق معنا.

وكانوا جميعا بما فيهم المسز مالون على وشك السفر إلى الموصل. لاستئناف التنقيب في نمرود. متممين بذلك أعمال الحفريات التي كان هنري لايارد قد بدأها منذ عام 1845 ظنا خطأ أن نمرود هي نينوى وأدهش العالم بما اكتشف يومذاك من روائع النحت وحقائق التاريخ.

التقيت ماكس مالون وزوجته بعد ذلك مرة أو مرتين في مناسبات عامة. ولفت نظري ان السيدة مالون شديدة اليقظة لما يجري حولها, ولمن ترى من أناس وفي شهر نيسان من ذلك العام 1949 أقيمت حفلة تمثيلية باللغة الانكليزية في قاعة الملك فيصل الثاني (قاعة الشعب حاليا) وفي مناسبات كتلك كنت ترى حولك معظم مثقفي بغداد من عراقيين وأجانب لأن المدينة لم تكن بعد قد اتسعت كثيرا عمرانا وسكانا وكان المرء يشعر أنه يكاد يعرف كل من يستحق أن يعرف في المدينة وأنه بالمقابل معروف لديهم جميعا. وكان أساتذة الكليات والخريجون الجامعيون (القلائل بالنسبة لما تحقق بعد ذلك بعشرين سنة) تجمعهم بأعداد كبيرة المناسبات الثقافية كالمحاضرات العامة أو المعارض الفنية (على ندرتها) أو حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي تقدمها الفرقة السمفونية العراقية الناشئة أو المسرحيات التي تقدمها بوجه خاص الفرق الزائرة وفي تلك الحفلة في فترة الاستراحة خرجت مع رفيق لي إلى قاعة المرطبات كغيري من المتفرجين وإذا نحن أمام مالون وزوجته نشرب القهوة لم تكن البيبسي أو الكوكاكولا قد دخلت العراق بعد. وعلقنا على ما رأينا من تمثيل تعليقا عابرا وتسألنا عن نقطة أو نقطتين ولما عدت إلى الكاونتر لأضع عني فنجان القهوة قابلني دزموند ستيوارت وسألني متفكها هل وجدتم حلا للجريمة؟ لم أفهم قصده وقلت أية جريمة؟ أجاب: جريمة من اختراع السيدة التي رأيتك تتحدث أليها.

فقلت: أسف لا أفهم قصدك.

قال: ألم تكن تتحدث إلى اغاثا كريستي؟

أدهشني سؤالك وحسبته مازال يتندر وقلت ببساطة: كنت أتحدث إلى ماكس مالون وزوجته وهتف ظننتك تعلم المسز مالون هذه هي كاتبة الروايات البوليسية أغاثا كريستي.

-. مستحيل!!.

-. أذهب أليها وتأكد.. ولكن أفراد الجمهور بانتهاء فترة الاستراحة كانوا قد عادوا إلى مقاعدهم في المسرح وعدت إلى مقعدي وأنا لا أصدق ما سمعت أهذه حقا أغاثا كريستي التي قرأت لها الكثير من الروايات البوليسية منذ سني حداثتي أزورها وأناقشها ولا يخطر ببالي لحظتين أنها أمسكت يوما قلما بيدها لم استطع متابعة النصف الثاني من المسرحية في انتظار نهايتها وبدت كأنها لن تنتهي إلى ان أسدل الستار أخيرا وتحرك الناس مغادرين مقاعدهم بعد التصفيق بينما تركت رفيقي وأسرعت من بينهم باحثا على المسز مالون إلى أن لمحتها عند الباب الخارجي واقفة مع زوجها بانتظار سيارتهما ذهبت أليها وسألتها مباشرة, هل أنت حقا أغاثا كريستي؟ ضحكت السيدة الفاضلة وأجابت ببساطة, نعم. قلت: يؤسفني جدا أنني لم أكن اعلم بذلك.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *