عندما أصبح الدكتور علي الوردي أستاذا جامعيا

عندما أصبح الدكتور علي الوردي أستاذا جامعيا

عمل علي الوردي في حقل التربية والتعليم زهاء الثلاثة عقود، كان منها ثلاث سنوات في التعليم الابتدائي خلال المدة (1937-1939) وكما مبين في الجدول رقم (2)، فقد ابتدأت مهامه في التعليم من اصدار اول امر اداري في تعيينه كمعلم “بمدرسة الشطرةالابتدائية»في 16 كانون ثان عام 1937 وحتى انتقاله الى مدرسة “الشالجية الابتدائية» في الاول من تشرين اول عام 1938،

ليحصل بعدها على اجازة دراسية لاستكمال دراسته الجامعية مدة اربع سنوات، ليعود فيلتحق بـ” الإعدادية المركزية « في 15 ايلول من عام 1943، ثم انتقل بعد عام ونيف الى «ثانوية التجارة» في الاول من كانون اول عام 1944 ليدرٌس فيها مادتي الاقتصاد وأحوال العراق الاجتماعية حتى الأول من تشرين أول عام 1945، حيث قدم اجازة اجازة دراسية لاستكمال دراسته العليا في الولايات المتحدة الامريكية.

تم تعيينه تدريسياً في “كلية الآداب والعلوم» في 30 تشرين اول عام 1950، اثر حصوله على درجة الدكتوراه، وبلقب علمي “مدرس”، وكانت “علم النفس الاجتماعي» اول مادة دراسية حاضر فيها لطلاب قسم الاجتماع، وهي كما اوضح احد شهود العيان من بين اقرب المواد الدراسية الى نفسه، إذ أولاها جل اهتماماته في البحث والدرس، فقد تناغمت مع تطلعاته العلمية في سبر اغوار المجتمع العراقي، والوقوف عند خصائصه وسماته، والعوامل المؤثرة في “الفرد» و «المجتمع»، والموروثات الاجتماعية من عادات وتقاليد وقيم ومثل واثرها في سلوكيات المجتمع وتحديد نمطيته من المفردات الخاصة في تحليل المجتمع العراقي، شكلت هاجساً علمياً وبحثياً، استغرقت خمسة عقود تقريباً من حياته العلمية والاكاديمية.

قاربت مهمة تدريساته الاكاديمية في كلية الاداب، زهاء العقدين من الزمان، تتلمذ علي يديه خلالها المئات من طلبة قسم الاجتماع، وكما مبين في الجدول رقم (3)، القسم الذي طالما رفد المجتمع بمتخصصين اجتماعيين، كان المجتمع العراقي بأمس الحاجة لخبراتهم العلمية والتربوية في مواجهة العديد من الاخفاقات السلوكية داخل المجتمع كالجريمة والانحرافات السلوكية، أو في الارشاد والتوجيه التربوي المتمثل بمهام “الباحثة او الباحث الاجتماعي»، سعياً وراء الحد ما أمكنهم سبيلاً من تلك الاخفاقات اولاً، والعمل على اعداد اجيال ومواطنين يتمتعون بصحة نفسية واجتماعية ثانياً.

نال علي الوردي لقب “استاذ مساعد» بتاريخ التاسع من شباط عام 1953 عن تأليفه لكتابي «شخصية الفرد العراقي» و «خوارق اللاشعور” ثم اردفه بعد تسع سنوات بلقب «الاستاذية” أي في السادس من آب 1962، ليمنح بعدها لقب “استاذ متمرس» من جامعة بغداد في السابع والعشرين من ايلول عام 1970، عام تقاعده من التدريسات في كلية الاداب.

لم تقتصر جهوده ومهامه في كلية الاداب على التدريسات فحسب، فقد اسندت له غير مرة مهام ادارية، شغل منصب رئيس قسم الاجتماع وكالة لمرتين، تخللهما اشغاله منصب عمادة كلية الاداب بتاريخ السادس عشر من حزيران عام 1960، ولمدة قصيرة لم تتجاوز الاسبوع الواحد، ثم اسندت له مهمة رئاسة قسم الاجتماع اصالة في الرابع عشر من تشرين اول عام 1963، فسعى خلال مدة سنتين من ادارته للقسم ارساء الدعائم الموضوعية والعلمية والبحثية في اعداد كوادر متخصصة، تمتزج فيها معلوماتها العلمية «النظرية” مع اسس معرفتها الميدانية “العملية»، ممازجة اكد عليها في منهجه التحليلي للظواهر السلوكية والاجتماعية في المجتمع العراقي.

لم تتوقف عجلة عطائه المعرفي والعلمي بعد تقاعده، اذ سرعان ما انخرط في القاء المحاضرات العلمية في “المعهد العربي للدراسات العليا»، ملقياً سلسلة من المحاضرات الخاصة عن «شخصية الفرد العراقي» و «طبيعة المجتمع العراقي» وثالثها تعلقت باصول علم الاجتماع وابرز مدارسه العلمية، حملت عنوان «المدخل لعلم الاجتماع».

اتسمت علاقاته مع طلابه، كما وصفها بعضهم بـ”الود» و «الانفتاح على آرائهم ومد الجسور معهم»، اذ لم يبخل بجهد او يدخر تعاوناً، مضيفاً بطريقته التحليلية والنقدية مناخاً علمياً على جو المحاضرة، استحال معه الطلاب الى خلايا متناغمة ومتفاعلة مع استاذهم من جهة، وارهاصات جهودهم البحثية والقراءاتية المتخصصة من جهة اخرى، معززة مطامحهم العلمية من تجاربه الميدانية الخاصة، وان كانت على حد تعبير احدهم تفتقد الى الإحصاءات التحليلية المجدولة عن هذه الظاهرة او تلك في المجتمع العراقي.

ولعل من المفيد هنا الإشارة الى ان خصائص علاقته مع طلابه من انسجام وانفتاح علمي وحواري، استمرت حتى بعد احالته على التقاعد، فعلى سبيل المثال لا الحصر، جرت مناظرة بينه وبين اكاديمي معروف في الوسط الاكاديمي العراقي كان في الامس القريب احد طلابه، الا وهو الأستاذ مدني صالح، كانت مجلة “الف – باء البغدادية» ميداناً لها، فقد استعرض تلميذ الامس واكاديمي اليوم طروحات استاذه الوردي عن العوامل والاسباب المؤدية الى ظاهرة «الازدواجية الشخصية»، مؤكداً ان العامل الاقتصادي لا يمكن تحييده او اضعاف دوره في بروز هذه الظاهرة الاجتماعية، فرد عليه الوردي بمثال حمل عنواناً ذا مغزى عميق في دلالته “الى تلميذي مدني صالح»، بين فيه ان تناقضات القيم وصراع الجديد مع القديم اطراف اساسية في معادلة ازدواجية السلوك مع عدم اغفال العامل الاقتصادي في المعادلة، وبالطبع لم يأت جوابه خلواً من عبارات الحنو الابوي المشوبة بعاطفة الاستاذ ازاء تلميذه “النجيب والوفي» كما وصفه في المقال نفسه.

لم تستثمر امكانياته الاكاديمية العالية ومكانته العلمية المرموقة في حقل الدراسات العليا في التدريس او الاشراف، الا بحدود نادرة وقليلة للغاية، وهذا ما يلفت النظر ويثير التساؤل عن الاسباب والمبررات الحائلة بينه كطاقة علمية وقادة وبين طلبة الدراسات العليا المتخصصين في علم الاجتماع والدراسات الاجتماعية.

فلا مراء اذ نجد جهوده في حقل الاشراف ومناقشة الرسائل والاطاريح الجامعية في العراق، قد اقتصرت في الاشراف على رسالة طالبة ماجستير واحدة فقط، تعنونت بـ”الاتجاهات القيمية لطلبة جامعة بغداد دراسة ميدانية»، تم اجازتها في كانون ثان عام 1975، عالجت فيها الباحثة ظواهر السلوك الاجتماعي لطلبة جامعة بغداد، والعوامل المؤثرة في نمطية سلوكهم كالعادات والتقاليد والأعراف، فضلاً عن المؤثرات الحضرية والفكرية، مازجت فيها الباحثة بين الأسس النظرية والبيانات الإحصائية المجدولة والمستقاة من دراستها الميدانية المباشرة مع عينات من طلبة جامعة بغداد، بلغت فيها جداولها المعلوماتية خمسة وستين جدولاً، فكانت دراسة موضوعية أشارت الدكتورة فوزية العطية رئيس لجنة المناقشة الى ان بصمات ورؤى علي الوردي كانت واضحة على منهج الرسالة.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *