عازفة البيانو العراقية بياتريس اوهانسيان – حياتها ومسيرتها الفنية

عازفة البيانو العراقية بياتريس اوهانسيان – حياتها ومسيرتها الفنية

تشعر بالرعشة عندما تغمرك لحنات بياتريس أوهانيسيان. إيقاعها المنعش ينعكس برقة ويتسلل إلى جميع أنحاء وجودك. يتداخل الأصوات بأنواعها، وكأنك ترقص فوق بساط من الزهور يرتفع بها نحو اللانهاية. تنغمس أصابعها الناعمة على مفاتيح البيانو بطريقة مدهشة، حيث تنسجم بأناقة وتتناغم مع بعضها البعض. يخلق الأداء الفريد إحساسًا بالحياة والحركة، مع نقرات صغيرة تشبه قطرات الرذاذ على أوراق الأشجار، يليها ضربة جبارة تثير كالرعد القاصف.

في أزقة بغداد القديمة، ينطلق الحديث عن بياتريس، الطفلة الجميلة التي أضاءت دار السيد والسيدة أوهانيسيان بجمالها. وُلدت في الربع الثاني من هذا القرن، حيث تُعد حكايتنا الى جو من المحبة والموسيقى. وقد كانت بدايتها مع الصوت المفعم بالإيقاعات حينما وقعت أذناها على نغمات الماندولين التي كانت تعزفها والدتها الماهرة، ووالدها المحاسب وعازف الفلوت في فرقة هواة. أما شقيقها الأكبر، فاتجه نحو فن عزف الكمان. عشت بياتريس طفولة سعيدة في جو من البهجة والترابط العائلي، وازدانت حياتها بقدوم الطفل الثالث الذي أُطلق عليه اسم “سيتا”.

في مدرسة الراهبات، كانت الأم لبياتريس هي المدرسة الأولى لتربية ابنتها. تركزت تأثيرات والدتها على حياتها الموسيقية، إذ لاحظت بسرعة ميل ابنتها نحو الموسيقى وقدرتها على حفظ الأغاني واللحن بسرعة مذهلة. عندما بلغت الخامسة من عمرها، بدأت تفكر الأم في إدخالها إلى المدرسة، وكان يتعين اختيار مدرسة تقدم حصصًا في الموسيقى بالإضافة إلى الحصص التعليمية الأخرى. فقررت اختيار مدرسة “الراهبات” في منطقة “عقد النصارى” ببغداد. حين وقفت الطفلة أمام “الأم” الكبيرة، طلبت منها أمها أن تجعلها جزءًا من الطالبات اللاتي يتعلمن الدروس الموسيقية. بعد اطلاع الراهبات على موهبتها الموسيقية، تم قبولها كأصغر طالبة في حصة الموسيقى. بدأت بياتريس، وهي في الخامسة من عمرها، في تعلم دروس العزف على آلة البيانو، التي أصبحت ترافقها في رحلتها الفنية. في تلك الأيام البعيدة في بغداد القديمة، حيث لم تكن هناك أجهزة تسجيل أو راديو في المنازل، كان عليها الاستماع إلى الموسيقى في المدرسة فقط، وحفظها بعناية لتكون جاهزة لتقديم ما تعلمته في اليوم التالي للراهبات المعلمات.

بعد ثلاث سنوات من التقدم السريع في عزفها وشغفها الشديد بآلة البيانو، قرر والدا بياتريس أن يشتروا لها آلة خاصة، بغض النظر عن التكلفة. بعد بحث طويل، اكتشفوا توفر الآلة في أحد المحلات، واشتروها بمبلغ قدره ثلاثين دينارًا، وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام. اقتطع الوالد هذا المبلغ من راتبه الضئيل ومن حاجات أسرته. لا يمكن وصف سعادة بياتريس عندما رأت البيانو يدخل المنزل ويأخذ مكانًا بارزًا فيه. الآن يمكنها حضور دروسها الموسيقية في المنزل وممارسة التمارين في أي وقت.

في بدايات عام 1940، أُسس قسم الموسيقى الغربية “الكلاسيكية” في معهد الفنون الجميلة ببغداد، بفضل مبادرة الأستاذ شريف يحيى الدين الحيدر الذي أصبح رئيسًا للقسم، وبمساعدة استاذين من رومانيا، جوليان هيرتس عازف البيانو وساندر البو عازف الكمان. عندما وصلت هذه الأخبار إلى والدي بياتريس، قررا إدخال ابنتهما إلى المعهد. أمام لجنة الفحص، وبحضور الأستاذ حنا بطرس، سكرتير القسم، واجهت بياتريس، البالغة من العمر أحد عشر عامًا، التحدي. اعترض أعضاء اللجنة على قبولها بسبب صغر سنها، ولكن حنا بطرس كان أول من قال: “دعونا نسمع عزفها… قد تنجح”. جلست بياتريس أمام البيانو، وبأصابعها الناعمة عزفت قطعة أدهشت الجميع. تم قبولها في المعهد كأصغر طالبة فيه، وأصبحت من بين خيرة الطلبة الذين تخرجوا من المعهد ليصبحوا بارزين في مجالات الفن وحتى في حياتهم الشخصية. الأربعينات تعد فترة لامعة في تاريخ المعهد، وخرّج منها العديد من الطلاب الذين يحتلون مراكز بارزة في الحياة الفنية والاجتماعية، حيث أرسلت العوائل البغدادية، وخاصة العوائل المعروفة، أبناءها وبناتها لتعلم الموسيقى.

تتذكر بياتريس زملاءها في المعهد، كل واحد منهم كان له طموحات فنية كبيرة، وتعتقد أنهم لو استمروا في طريق الفن، لكانوا اليوم من بين أشهر الفنانين في العراق. كانت الدراسة في المعهد مسائًا، وكانت المبنى يقع في “عقد النصارى”، وبعد أشهر قليلة، انتقلت إلى منطقة “البتاوين”. في تلك الأيام، لم تكن وسائل النقل متاحة كما هي اليوم، ومعظم الشوارع في بغداد لم تكن مبلطة بالقير. كانت بياتريس مضطرة للذهاب والعودة مشيًا على قدميها، تحت وابل المطر وبرد الشتاء، موغلة في الطين والأوحال، مسببة الإزعاج لأخيها أو والدها اللذين كانا يرافقانها بالتناوب. كانت ليالي قاسية لشتاء بغداد، ولكنها لم تثني الطفلة بياتريس عن مسارها نحو المدرسة، التي أعلنت عن نفسها في المحافل الدولية مستقبلًا.

في دار الإذاعة العراقية، كان الضوء الأحمر يعني أن تكون جاهزة، والضوء الأخضر يعني أن تبدأ العزف. كانت بياتريس تتلقى تعليمات المخرج في أول ظهور لها على مسرح الإذاعة. طُلِبَ من معهد الفنون الجميلة تقديم أداء للطلاب في المعهد عبر دار الإذاعة. لم يتردد استاذها جوليان هيرتس في تسليم أدائها. كان البث حيًا مباشرًا، وكان المستمعون يستمعون إلى صوت البيانو الرخيم للطفلة بياتريس وهي تعزف قطعًا من موسيقى شوبان وبيتهوفن. لم يكن يدرك هؤلاء المستمعون أن الطفلة ترتجف من الخوف والرهبة في الاستديو، حيث ترى الضوء الأحمر والأخضر ووجوه المخرجين ومهندسي الصوت خلف الزجاج السميك.

في سجلات الإذاعة، نجد أن طفلة تُدعى بياتريس أوهانيسيان قد قدمت العديد من المقطوعات لكبار المؤلفين بين عامي 1941 و1942. في العام الدراسي 1946-1947، تخرجت بياتريس أوهانيسيان من معهد الفنون الجميلة بتقدير ممتاز، وتم تعيينها كمستخدمة في المعهد نفسه لتدريس عزف آلة البيانو.

وفي أول ظهور رسمي أمام الجمهور، خارج نطاق الحفلات الصغيرة في المعهد والإذاعة العراقية، قررت بياتريس أوهانيسيان تنظيم حفلة موسيقية بدعوة من المعهد الثقافي البريطاني في بغداد. كانت هذه فرصتها لاختبار نفسها في التفاعل المباشر مع الجمهور. أقيمت الحفلة في قاعة واسعة بالمعهد، مليئة بالجمهور العراقي والأجنبي، وبكل ثقة، بدأت بياتريس تعزف على آلة البيانو. كانت أصابعها الذهبية تستحضر لحنًا لم يصدق الحاضرون أنه ينبع من أصابع فتاة عراقية تقف أمامهم للمرة الأولى.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *