صناعة عراقية ومهارة فائقة..90 عاما على صنع ساعة الاعظمية

صناعة عراقية ومهارة فائقة..90 عاما على صنع ساعة الاعظمية

يحق لكل عراقي ان يتيه فخرا واعتزازا بكل ما ابدعته اليد العراقية الماهرة في الحقل الصناعي على مر العصور ويزهو بنفسه على ذلك العطاء الثر الذي قدمه للانسانية مساهمة منه في كثير من مجالات الفكر والعلم والفن والصناعة. وقد اثبتت الايام بان كثيرا من القابليات والكفاءات ظلت فترة من الزمن مطوية في عراقنا الحبيب حتى اذا ما تهيأت لها الفرص المسعفة برزت للوجود فبرهنت للملأ على نبوغ العراقي وابداعه في جميع المجالات وكشفت عن قابلياته وجلت مواهبه ونهضت دليلا على ان النبوغ والابداع لا يختصان ببلد دون آخر وينفرد بهما شعب دون سائر الشعوب. 

وكان من هؤلاء النوابغ المبدعين الذين تهيأت لهم فرص العمل بعصامية فذة وبعقلية مبدعة متطورة المرحوم عبد الرزاق محسوب الاعظمي منشئ الساعة البغدادية المشهورة باسم «ساعة المعرض» او الساعة الاعظمية نسبة الى الامام الاعظم ابي حنيفة ـ رحمه الله ـ
وتبدأ قصة هذا الصانع الموهوب مع الساعة الاعظمية في عام (1337هـ/1919) يوم اهديت الساعة الكبيرة ذات الوجهين والتي كانت منصوبة في الحضرة الكيلانية كما قدمنا الى جامع الامام الاعظم لتصليحها ونصبها فيه غير ان هذه الساعة كانت قديمة وقد تلف الكثير من اجزائها اثناء رفعها، فطلبت مديرية الاوقاف العامة الى بعض المتعهدين إصلاحها وأعلنت عن ذلك في الصحف المحلية فتقدم اليها الحاج عبد الرزاق محسوب الاعظمي وفحصها فوجدها غير صالحة، ثم رادوته فكرة القيام بصنع ساعة مثلها، وكانت فكرة رائعة تحكمت في احاسيسه ومشاعره حتى اقضت مضجعه في الليل واستنزفت الكثير من وقته في النهار، فراح يرسم خطوطها الرئيسية منذ تلك اللحظة ودب نشاط غير اعتيادي في معمل السيد محسوب الذي راح يوزع الاعمال بين عماله باهتمام بالغ وجدية ملحوظة وفي ذهنه تصميم لصنع ساعة كبيرة مع هيكلها الخاص ذات اربعة اوجه بدلا من تلك الساعة ذات الوجهين وهكذا واصل السيد محسوب عمله المضني في صنع هذه الساعة بمساعدة ولديه السيدين محمد رشيد وعبد الهادي حتى اتم صنعها في عام (1930م/ 1350هـ) وبعد الانتهاء من تنظيمها واجراء بعض التجارب والفحوص عليها امام جمهرة من اهل الخبرة وشاهدي العيان طلب من ادارة الاوقاف تسلمها هبة منه وبدون عوض لتوضع بدلا من تلك الساعة التالفة في جامع الامام الاعظم، الا ان العقليات القاصرة وغير المدركة في الاوقاف حينذاك تشككت في صنعها فأخذت تماطل في ذلك. واخيرا رفضت تسلمها فاحتفظ بها واقام لها برجا حديديا في جانب من معمله الكائن في الاعظمية وقد تجاوزت آفاقه اصداء دقات تلك الساعة وهي تعلن عن الوقت بانتظام وتبارك جهود السيد محسوب وعمله المبدع في خدمة بلاده.
وما هو جدير بالذكر ان جميع اجزاء هذه الساعة وآلاتها كانت عراقية الصنع مئة في المئة بحيث لم يستورد اي جزء لها من الخارج اذ قامت بصنعها وهندستها الايدي الفنية العراقية في معمل السيد محسوب وباشرافه.
ولما اقيم المعرض الزراعي الصناعي في حدائق باب المعظم في بغداد والذي افتتح في 7 نيسان 1932م في عهد الملك فيصل الاول كانت هذه الساعة الشامخة والتي فازت بحق وجدارة بالجائزة الاولى من ابرز المعروضات واجدرها باهتمام الجمهور. واخيرا وبعد هذا الفوز الساحق على غيرها من المعروضات وافقت الاوقاف على تسلمها وتسلمتها بالفعل لا لتوضع في جامع الامام الاعظم وانما لتوضع رهن التوقيف والحجز في احد مخازنها فداهمها الصدأ وكادت ان تتلف لولا ان تداركها قرار مجلس الوزراء الصادر بعد ثورة تموز المجيدة عام 1958م والقاضي بالافراج عنها ونصبها على برج يناسبها في جامع الامام الاعظم على ان تقوم به وزارة الاسكان، وبعد وضع التصاميم والخرائط اتجهت النية الى بناء الابواب الرئيسية وسياج الجامع مع برج الساعة. وقد بوشر بالعمل ونفذ بناء البرج بالكونكريت المسلح على شكل اسطواني وبارتفاع (25)مترا ومحله قرب الباب الرئيسة من جهة الغرب ثم كسي البرج بالفسيفساء الايطالي ذي اللون الازرق والابيض، كما بنيت الابواب على شكل اقواس ثلاثة بالكونكريت المسلح ايضا كما كسيت بنفس النوع من الفسيفساء. وبعد اكمال بناء البرج سنة (1381هـ/1958م) نصبت الساعة المذكورة اعلاه وهي قائمة تعمل بانتظام وبدقة.. وفي سنة 1973م قامت الاوقاف بإكساء البرج بصفائح من معدن الالمنيوم المضلع ذي اللون الذهبي فزاد ذلك من روعة منظره.
اما عن وصف هذه الساعة فقد بلغ ارتفاعها ثمانية اقدام، وهي ذات وجوه اربعة، وقطر كل وجه منها متران، وعلى كل وجه ثلاثة عقارب، اثنان منها يشيران الى الدقائق والساعات والثالث يشير الى الايام، وصممت هذه الساعة على مبدأ الثقل حيث يتدلى منها ثلاثة اثقال تحرك ثلاثة مكائن ويقع موقع الثقل الاول في الوسط وهو الذي ينظم حركة العقارب وموقع الثاني من الجهة اليمنى وهو الذي ينظم دقات ارباع الساعة، وموقع الثالث في الجهة اليسرى وهو الذي يعلن بدقات قوية عن الوقت، ويبلغ وزنها ثمانية اطنان. وليس ادل على مبلغ ما استأثرت به هذه الساعة من اهتمام رواد المعرض الزراعي الصناعي عراقيين واجانب ما اورده (امين الريحاني) خطيب المعرض المذكور عند افتتاحه فقال يصف المشهد الرائع والحدث المهم في تاريخ النهضة العراقية: «وكان الناس محتشدين حول الساعة العظيمة ـ الاعظمية ـ التي صنعها احد ابناء البلدة المشرفة باسم الامام الاعظم وبحجرته لتعرض في معرض الزراعة والصناعة ببغداد، وكانت الساعة قائمة في باحة المعرض الكبرى فوق قاعدة عالية من الحديد، وهي تردد نبأ الزمان ـ والناس متلعون، والعيون منهم محدقة بهذا الاثر الصناعي العربي البغدادي الاعظمي، والكل معجبون به ـ هذه الساعة مفخرة المعرض، والله بل مفخرة للعراق ـ ومن ذا الذي يقول ان العقل العربي عقيم لا يحسن الاختراع ـ انها بيت القصيد في هذا المعرض ـ وقد قال احدهم: قد يكون صانعها من سلالة ذلك العربي الذي صنع الساعة التي اهداها الخليفة هارون الرشيد الى عاهل الفرنجة الامبراطور شارلمان.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *