لو بحثت عن بعير تجده فيه، ولو بحثت عن إبرة تجدها فيه أيضا، وربما هو السوق الوحيد في العالم الذي يمكن أن تجد فيه من يعرض للبيع قطعة واحدة من الحذاء، الذي هو في الأصل قطعتان لا قيمة لإحداهما دون الأخرى.
إنه سوق الهرج، الذي تقف أبنيته متهالكة وسط أحياء الرصافة القديمة في الجانب الشرقي من مدينة بغداد، لكنها مازالت تصارع التاريخ.
هنا تستطيع أن تشتري قطعة مفقودة لسيارتك لن تجدها لدى وكلاء البيع في أرقى محلات المدينة، وهنا كذلك يمكنك أن تغير ملامحك وملابسك بمبلغ لا يتجاوز 6000 دينار (نحو خمسة دولارات).
سوق لكل شيء
في هذا السوق الذي يتوسط أحياء الحيدرخانة والميدان ودكان شناوه ومحلة السراي تجد من يعيد إصلاح العود ومن يبيع أقدم الأسطوانات التي تحمل صوت قارئ المقام حسن خيويكه ورشيد القندرجي وصديقه الملايه وزكية جورج.
وفي هذا السوق تباع اللوحات العالمية الفاخرة إلى جانب أنواع من الألبسة التي تعيدك إلى فترات قديمة من تاريخ مدينة بغداد.
أبنيته لا تبعد عن أعمدة السور الخارجي لمبنى وزارة الدفاع القديمة المشيدة من الطابق على الطريقة البغدادية للسياج, ولا تبعد أيضا عن مسرح الهلال الذي غنت فيه أم كلثوم عام 1935.
ولا يعرف عمر السوق بالضبط أحد من العاملين فيه أو من رواده، لكن الروايات القديمة عنه تشير إلى أنه أحد أقدم أسواق رصافة بغداد، وتذهب إلى أنه أقدم حتى من أحياء الرصافة التي شقها الوالي العثماني ناظم باشا عام 1910 بشق أمام “جادة سي” أو ما صار يعرف بعد ذلك بشارع الرشيد.
قديم وجديد
وتضيف الروايات أن تسميته العربية بسوق الميدان أقدم من تسميته التركية بسوق الهرج التي تعني بالعربية أيضا الفوضى، كما يقول بائع الكراسي القديمة عدنان عبد القادر.
دكان عبد القادر نفسه يشكل أحد رموز عراقة السوق، فقد ورث محلا لشراء الأثاث القديم ويسهر على إصلاحه بدقة الفنان ويعيد بيعه في صورة تحف قديمة نادرة، وهي تجارة كان سوقها رائجا أمام العرب والأجانب والعراقيين من هواة التحف القديمة.
سوق الهرج -يقول التاجر ياسين هاشم (63 عاما)- انشطر إلى سوقين مازال الأصلي القديم منهما بمنطقة الميدان ويقع الثاني الأكثر جدة وحداثة في منطقة الباب الشرقي.
لكن الحرب وما نتج عنها من قتل وتفجير -يضيف هاشم بحزن شديد- غيرت كل شيء وضيعت من أهل بغداد قديمهم وجديدهم.
وهكذا فقضاء نصف يوم في سوق الهرج، كما جرت به العادة طيلة عقود وربما قرون خلت، أصبح اليوم مغامرة كبيرة بسبب وقوعه في الباب المعظم وهو إحدى المناطق الساخنة، ولأنه كذلك يجاور منطقة ساخنة أخرى هي منطقة الفضل.
بين الأمس واليوم
الحاج منذر عبد الرسول، وهو مدرس تاريخ متقاعد اتخذ زاوية بالسوق لتصليح الساعات القديمة، يرى أن منطقة الميدان وسوق الهرج فقدا الكثير من معالمهما منذ بداية الاحتلال البريطاني، وليس فقط مع الاحتلال الأميركي.
فالمنطقة تبدأ مع شارع الرشيد من جهته الشمالية, حيث كانت المقاهي التاريخية وروادها من الكتاب والمثقفين والشعراء، وحيث سوق السراي المتخصص ببيع الكتب, وحيث مكاتب صحف حيزبوز والزمان والبلاد والرأي العام والأحرار والحرية وغيرها من الصحف، وحيث المطابع الحجرية القديمة التي مازال بعضها يأبى مغادرة المكان حتى الآن رغم الدمار الذي حل بسوق السراي.
ويضيف أن الحاكم العسكري البريطاني في بداية القرن الـ20 جعل في هذه المنطقة التاريخية والثقافية مقرات لبائعات الهوى في أحياء دكان شناوه وكوك نزر، وجعل الدخول والخروج إليهما مصرحا ومحروسا إلى أن أغلقت هذه المقرات بعد سقوط النظام الملكي في العراق وانبثاق أول جمهورية في 14 يوليو/ تموز 1958.