الرسالة المرسومة بطابع البريد وخاتم الجهة المُرسِلة، الانتظار لأكثر من أسبوع حتى تصل إلى المُرسِل له، الورق المسطّر بالأشواق واللهفة، ووضع المغلف في صندوق البريد، كل هذه اللحظات تتلاشى تدريجيًا أمام سرعة وسهولة البريد الإلكتروني في إيصال الرسائل. ومع ذلك، يظل هناك من يجد أن متعة استلام رسالة بخط اليد تضاهي برودة الكلمات المختصرة في البريد الإلكتروني. باتت هذه التجارب تشكل جزءًا من الماضي، ومعها اندمجت الكتابة اليدوية الدافئة مع برودة الرسائل الإلكترونية.
فقد كاتب الرسائل مكانته القديمة كـ”حسن البيان، رقيق حواشي اللسان، حلو الاشارة، مليح الاستعارة”. شهدنا فقدان تلك اللمسة الفريدة من نوعها، مثل تعبير “شكرًا لساعي البريد” الذي انتقل من عالم الحمام الزاجل إلى خدمات البريد الإلكتروني. يروى أن الإغريق كانوا أول من استخدموا الحمام الزاجل في نقل نتائج الألعاب الأولمبية، بينما اعتمد الرومان على هذه الطريقة في المراسلات العسكرية أيام الإمبراطور أوكتافيوس الثالث.
في عهد عبد الملك بن مروان، أُسس ديوان البريد كأول علامات الدولة الحديثة، حيث وُضِعت العناوين والاتجاهات والإشارات وتقدير المسافات على الطرق. انتقل البريد في تلك الفترة ليصبح جزءًا من نظام دولي أموي مُتطوّر، وازداد عدد المحطات البريدية إلى نحو ألف محطة. شهدت فترة المماليك تحسينًا آخر في نظام البريد، حيث باتت الرسائل تصل خلال يومين بواسطة خيول سريعة، مواصلةً تطورها واندماجها في الأنظمة السريعة للاتصالات.
بظهور القطار في القرن التاسع عشر، نشأ البريد الحديث، وفي العقد الأول من القرن العشرين، طُرِحَت خدمة البريد الجوي في بريطانيا وأميركا، ثم انتقلت إلى جميع أنحاء العالم. سُمح للرسالة الشخصية بالعيش في عصرها الذهبي، خاصةً في فترة الخمسينات وما بعدها في القرن العشرين. في الثمانينات، ظهر الفاكس ليواجه أول ضربة قاصمة للرسالة التقليدية المختومة بخاتم وطابع البريد. ثم أعلنت تقريبًا استسلامها بفضل اختراع البريد الإلكتروني في أوائل سبعينات القرن الماضي، لتقتصر على المراسلات الرسمية. مع انتشار الكمبيوتر الشخصي، أصبح الفضاء متاحًا على مصراعيه، وانتهت الحدود الجغرافية حيث يمكن للمستخدمين للبريد الإلكتروني الحصول على صندوق بريدي خاص أو أكثر بأسماء حقيقية أو وهمية، وتكوين مجموعات بريدية تتبادل الرسائل والصور والوثائق بالصوت والصورة.
كان ابن الأثير أول من تنبأ بتطور البريد حين أشار، قائلاً: “وأما المكاتبات فإنها بحر لا سواحل له، لأن المعاني تتجدد فيها بتجدد حوادث الأيام”. لا شك أن بهجة الرسالة الورقية تتجاوز ما تحققته الرسالة الإلكترونية بمسافة. إذ تتميز بأناقة الخط والبوح العميق بالمشاعر والأشواق. في المقابل، تظهر الرسالة الإلكترونية مختزلة وركيكة غالباً في بناء الجمل والمعنى، بالإضافة إلى المباشرة في تحقيق مقاصد مرسلها. لن نحتاج اليوم إلى شخص مثل ابن العميد، أشهر كاتب رسائل في العصر الأموي، الذي أسس ديباجة تقترب من النص الأدبي. ولن نحتاج بكثرة إلى الطوابع للتأكد من وصول الرسالة، ولن نستعيد يوميات ساعي البريد، كما وصفها يحيى حقي في روايته “البوسطجي” وعبارة “خطأ في العنوان”. بالطبع، لا نقصد إنكار الرسائل الورقية تماماً، ولكن ينبغي الاعتراف بسطوة البريد الإلكتروني على مكاتباتنا.
والملحوظ هنا أن حياة ساعي البريد (البوسطجي) لم تكن مجرد مهنة بل أصبحت جزءًا طبيعيًا ومتممًا لحياة البغداديين، حيث أصبحت تعتبر تراثًا وفولكلورًا يندرج ضمن الماضي الذي رحل مع الأزمنة. وقد أدت المطربة العراقية أنوار عبد الوهاب أغنية “ساعي البريد” التي غنت لهذا الشخص ولهذه المهنة. اعتاد أهالي بغداد لفترات طويلة أن يرى ساعي البريد كل يوم صباحًا ومساءً، وجهًا بغداديًّا يمتطي دراجة هوائية يأكل عليها الزمن ويشرب بفعل تقادمه. يرتدي ملابسًا بالية تتناسب مع تلك الفترة ويعتمر “برنيطة” تشبه إلى حد بعيد “الكاسكيتة” التي كانت تزين رؤوس الجنود وسائقي مصلحة نقل الركاب، الذين عاصروا في نفس الفترة التاريخية لساعي البريد. وكان ساعي البريد ظاهرة طبيعية معتادة في حياة بغداد.
ويحمل على كتفه حقيبة مليئة بالرسائل اليومية التي تحمل أخبارًا طازجة أو يتحمل تعب البحث فيها للعثور على أصحابها الذين لم يجد أثرًا لهم. تعيش الأهالي حالات من الهفة والشوق في انتظار أخبار الأحبة الغائبين أو المسافرين، سواء كانوا قريبين أو بعيدين. وكثيرًا ما يلقي الساعي نظرة على وجوه الناس الذين يكلفون بتسليم الرسائل لهم، ليرى مدى التأثر والمشاعر والأحاسيس التي تظهر على محياهم، سواء بالبشارة التي تنتظرها أم بصدمة والجفاء من الأخبار الحزينة. ظاهرة ساعي البريد اختفت وتراجعت من حياة البغداديين، ولم نعد نراها في أزقة البغداد القديمة بعد أن ركنت دراجاتها الهوائية وخلعت ملابسها التقليدية، حيث اعتمدت ملابس العصر الحديث، بعد أن كانت جزءًا من حياتهم اليومية المألوفة والمعتادة حتى وقت قريب.
Smart homes are amazing! 🏠 If you’re in Stockholm and need professional help installing smart devices or upgrading your home’s electrical system, check out Hbel.se. They specialize in modern and efficient solutions!