” خان جغان ” سوق دانيال – يحتفظ بهويته التراثية

” خان جغان ” سوق دانيال – يحتفظ بهويته التراثية

تخصص سوق دانيال الأول والثاني في بيع الأقمشة النسائية الفاخرة ولوازمها، مع استيرادها من المناشئ الغربية، وكان يعمل بنظام التجارة المفردة. بالإضافة إلى ذلك، كانت هناك أسواق قريبة تختص في بيع الجملة. أما السوق الثالث، فكان متخصصًا في بيع السجاد، ويمتاز بتوفر أرقى المنتجات العالمية، خاصة الإيرانية.

شهد السوق شهرة واسعة بفضل تجار معروفين مثل حميد الفيلي، وعلي حسين الطعان، وعبد اللطيف الشهربلي، ومصطفى عبد الحسين أبو محمد، الذين كانوا يقومون بتجارة مع الدول المجاورة لاستيراد السجاد النادر وبيعه في العراق وخارجه. كانت الطابق العلوي يستخدم لمكاتب تجارية وتخزين البضائع، مع توفر مرافق صحية.

يضم السوق عدة أبواب رئيسية وثانوية، حيث تكون الرئيسية أربعًا، اثنان شمال السوق واثنان جنوبه، إضافة إلى بابين صغيرين غربًا وباب واحد شرقًا. يتحول السوق عند إغلاق أبوابه إلى قلعة حصينة، معماره المعروف بالقيصرية، وهو نمط مشهور في أسواق بغداد القديمة ويمنع دخول أي شخص بعد إغلاق الأبواب.

افتتحت أبواب سوق دانيال في الصباح الباكر، حيث كان أصحاب المحال يقومون بغسل وتنظيف محلاتهم استعدادًا لاستقبال الزبائن. يقوم حارس السوق، الرجل الطيب الملقب بـ “العم هنيدي – أبو جبار”، بتنظيفه ليلاً بدون مقابل، يعتمد على ما يأخذه من راتب مخصص وعائدات صناديق الأقمشة الخشبية التي يشتريها ويعيد بيعها مرة أخرى.

سعر الصندوق الواحد لا يتجاوز 350 فلسًا، وبسبب كثرة البضائع والصناديق الخشبية، يكون هناك إطلاق لمواد حافظة للأقمشة عند فتحها، مما يتسبب في حالة تجعل العيون تدمع بشدة، وكأن المكان قد تعرض لقنبلة مسيلة للدموع.

في بداية فتح السوق في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن لدى الناس رغبة في العمل به، فقد كانت المحال مستأجرة وكان التنقل بينها يعتمد على كثافة الزبائن. يشير أحد أصحاب المحال القدماء، الحاج إسماعيل سرحان (أبو محمد)، إلى أن جده ووالده كانوا من الذين امتهنوا بيع الأقمشة النسائية لأكثر من 60 عامًا، وتبقى ذكريات تلك الفترة في ذاكرته دون أن يرغب في نسيانها.

قضينا في سوق دانيال وقتًا أطول منما كنا نقضيه في منازلنا وبين أهلنا. كنت أرى السوق وكأنه كائنًا حيًا يتنفس، يعكس حياة البلد بأوقات السعادة والحظ السيء، اعتمادًا على حالة البلاد. امتدت عصوره الذهبية من الأربعينيات حتى نهاية السبعينيات، لكن بدأ ينحدر في الثمانينيات والتسعينيات، وحتى الآن (2012م)، بعد أن هجره أصحابه وتركه بعض زبائنه، وبالتالي فقد تخصصه في بيع الأقمشة النسائية إلى تخصص آخر لم يكن معروفًا.

سوق دانيال كان مدرسة تعلمت منها الكثير على مدى أربعين عامًا، كان يشبه عراقًا صغيرًا بتنوع طوائفه، حيث وجدت التاجر العراقي المسلم والمسيحي واليهودي والصابئي جنبًا إلى جنب. كنت أنظر إليه كمكان تجسد فيه المجتمع العراقي والبغدادي بكل ألوانه. والدى (أبو جمال)، الذي كان جزءًا من هذا المجتمع، كان رجلا عصامياً، لم يفارق السوق حتى وفاته، وكان محاطًا بمجموعة من الرجال الطيبين والوفيين، مثل الأخوين (علوان اللامي أبو حسين) وأخوه (الحاج طرار أبو صلاح)، الذي كان رمزًا للوفاء والطيبة والجوار الحسن. كانوا يعملون في بيع الكماليات النسائية في محلاتهم بسوق دانيال الثاني.

الجيران الرائعون لنا، برحيل الحاج إسماعيل محمد سرحان، أبو محمد، الفلسطيني الذي كان مدرسًا في فنون البيع والشراء، وعاش وعمل في مصر قبل أن يأتي إلى العراق. توفي الحاج أبو محمد ودُفِنَ هو وأسرته في بغداد، ورحل أبناؤه إلى الأردن بعد عام 2003. لا يُنسى جارنا الهادئ، مانوئيل كرابيت-مانو، الذي ينحدر من القومية الآرمنية. تعايشت معهم أيضًا شخصيات أخرى مثل الجار الكلداني عزيز حنا-أبو بدري، وأخوه باسم الذي أدار المحل بدلاً منه. يحيط بهم جارنا خماس اللامي-أبو قاسم، بائع الكماليات النسائية، ومحل الحاج محسن فخر الدين-أبو كريم. وهناك مجموعة من المحلات الأخرى وأصحابها، مكوِّنين جزءًا من تاريخنا المحلي الغني.

في صفوف أصحاب المحال الفلسطينيين من عشيرة بيت القيسي، والمنحدرين من مدينة الخليل في فلسطين، كان كبيرهم رمزي القيسي وإخوتهم يمارسون مهنة بيع الأقمشة، ورغم وفاتهم، إلا أن أبناءهم استمروا في توريث هذه الحرفة قبل أن يتجهوا إلى مهن أخرى. وفي إطار الصحبة والوفاء، أتذكر شخصيات عديدة شهدتها وعاشتها الحي. يظهر أمامي الحاج سلمان خلف، أبو داود، يلتقي بالمرحوم حسين تقي، أبو علي، والحاج عبد الأمير شعبان وخضير أبو صباح، المتخصص في صناعة وبيع العطور. ويقابلهم المرحوم عبد الله أبو علي، والعم شيحان أبو علي، الموزع لعطر باترك. يلتقينا أيضًا بسعد خلف المشكوري، أبو هيثم، المتخصص في صناعة بدلات وفرشات الأعراس. وفي الفرع الصغير الذي يُفضي إلى سوق دانيال الأول، كان الحاج صلاح يقوم بتخصص لعب الأطفال. وفي بقايا خان جغان والمدرسة النظامية، كان هناك مقهى صغير وقديم يُديره رجلان كبيران في السن، قمبر أبو يوسف، والمساعد جعفر، يقدمان الشاي والمرطبات لأهل السوق، ويوفران الماء البارد للاستراحة للمتسوقين.

يظهر في سوق دانيال الثاني، عند الباب الغربي الصغير، مقهى أخرى تديرها رجل يُدعى محمد، الذي يخدم قسمًا آخر من أصحاب المحال. تخرج من هذه المقاهي مجموعة من الشباب الصاعدين الذين نجحوا في تطوير أنفسهم وأصبحوا رجال أعمال نافعين لمجتمعهم وبلدهم.

كانت هناك مجموعة من الحرفيين في مرافق خان جغان، يمارسون مهنًا متنوعة، بما في ذلك تجارة السجاد التي كان يقوم بها مصطفى عبد الحسين-أبو محمد وهاشم عبد الباقي الطيار. وكانت هناك أيضًا أعمال تطريز وخياطة للفرشات والبدلات الاحتفالية، حيث كان أبو عدنان وأخوه أبو إبراهيم متخصصين في هذا المجال.

وفي الجنوب من سوق دانيال الثاني، يبرز مخزن حواء الخاص بـ عبد جواد الخفاجي-أبو حيدر، والذي يُتخصص في بيع لوازم الخياطة ومجلة “بردا” للأزياء النسائية منذ عام 1950، واستمر بالعمل تحت إدارة ابنه حيدر حتى عام 2012.

كما يوجد محل (آدم) لبيع لوازم الخياطة، يديره عبد الرزاق-أبو أسامة، ومحل للحاج نعمة-أبو كريم الذي انتقل من بيع الأقمشة النسائية لبيع لوازم الخياطة. وهناك مخزنين (ستارعنبر وأبو سمير) المتخصصين في بيع الكماليات النسائية بالجملة، ومحل (عادل-أبو رمزي) للوازم الخياطة المتنوعة. تلك هي قطع صغيرة من ذكريات سوق دانيال الثاني، حيث يستمر بعضهم في العمل، وآخرون ابتعدوا عن المهنة، والبعض الآخر توفي أو اعتزل نتيجة للعمر أو المرض.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *