حكايات واسرار منارة جامع سوق الغزل

حكايات واسرار منارة جامع سوق الغزل

قبل حوالى ثلاثة قرون، لم يتناول أحد قصة منارة سوق الغزل، باستثناء الأفرنج. العراقيون، بما في ذلك البغداديين، لم يسجلوا لها أي نبذة أو مقال، ولم يتناولوها بذكر. وعندما احتلت بريطانيا بغداد، قام مهندسوها بزيارة المئذنة وفحصها.

تخشى الناس حول منارة سوق الغزل من احتمالية سقوطها وتدمير المنازل المجاورة، مما يعرض أصحابها للخطر. لذلك، قرر السكان هدمها لحماية الحي ومنع إلحاق الأذى بالناس. استجابة لهذا القرار، كلفت السلطة المحتلة كاتبًا مشهورًا بكتابة مقال ينشر في جريدة العرب في عام 1917، بهدف تهيئة الرأي العام لقبول فكرة هدم المنارة. وعلى الرغم من جهود الكاتب، فإن مالك الجريدة ألمح للسلطة المحلية أن المنارة ليست تهديدًا حاليًا، محاولًا إقناعهم بعدم ضرورة تدميرها. ومع ذلك، لم يقتنع الحاكم بالحجج المقدمة وأصر على تفجير المنارة، على غرار ما حدث مع مدخنة “العباخانة” الأثرية.

عندما أدرك مدير الصحيفة أن القائم بالأمور لا يعيد النظر في قراره، قام بإبلاغ السيد محمود شكري الآلوسي الراحل ليحاول إقناع برسي كوكس بتعديل قراره السابق. رافق الآلوسي مدير الجريدة، وناشدوا الحاكم بترك هذه المسألة لوقت لاحق، ولكنه لم يتراجع. بعد إقناعه، استغرقت سنتين ليتم تكليف مهندس البلدية، السيد شافانيس الفرنسي، بتقوية كرسي المئذنة، وهي اليوم قائمة على ساقها كما كانت، وتحمل تاريخها بفخر. بالنسبة لهوية من قام ببنائها، فإنها لا تزال غامضة ولم يتفق الكتّاب، سواء الإفرنج أو الكتّاب المعاصرين، حول هذا الأمر. واليوم، بفضل الباحث يعقوب نعوم سركيس، يتم التحقق من صاحب المئذنة، التي تظل زينة للمدينة وفخرها.

في منطقة وسط شرق بغداد، تتوسط محلة سوق الغزل اليوم منارة تابعة لجامع قديم تُعرف باسم “المحلة”. كانت المحلة في وسع منطقة أرض مستطيلة صغيرة، تبلغ تكسيرها حوالي خمسمائة متر، وكانت تحيط بها ثلاثة أبواب تؤدي إلى منازل بسيطة. ومنذ نحو ثلاث سنوات، أُحاطت المنطقة بجدار بارتفاع نحو مترين ونصف. يتم بيع الغنم صباح كل يوم في هذه المنطقة، ويتوسطها المنارة، التي تظهر بنيتها الطاغية على المدينة ومحيطها من علو لا يضاهى. تشبه المنارة الشيخ الفريد النادر الذي لا تزال علامات التجاعيد على وجهه، ولكنه يظل صامدًا ومستقيمًا، يتحمل حلاوة الأيام ومرارتها. إن صمود المنارة أمام عوامل الطبيعة يُظهر التقدم الرائع لفن الريازة في تلك الحقبة واختيار الرزاة لمواد البناء الرفيعة والمهارة في صنع الطوب وما شابه ذلك.

وبالقرب من المنارة، في غربها الجنوبي على بُعد عدة عشرات من الأمتار، يقع مسجد جامع يعرف بجامع سوق الغزل، وعند استقصاء الخبر من الماضي عن الجامع التاريخي الذي بُنيت له المنارة، يُظهر لنا السجل التاريخي أنه كان يُسمى جامع الخلفاء قبل نحو تلاثة قرون على الأقل، وكما سنرى، كان يُسمى في القرن السابع للهجرة وما قبله “جامع الخليفة” أو “جامع القصر”.

نُشر في جريدة “العرب” البغدادية في عدد صادر في 14 أيلول سنة 1917 مقال بدون توقيع حول جامع سوق الغزل، يُشير إلى أنه جامع الرصافة، مما يختلف عن الحقيقة. وقد قامت مجلة “مرآة العراق” بنقل هذا المقال في عدد لها في سنة 1919. يلاحظ أن الكاتب استند إلى ابن الأثير حول بناء جامع الرصافة في سنة 159 هـ، ولكن هذا لا يتعلق بجامع الخليفة أو القصر.

بشكل غريب، يُذكر المقال أيضًا معلومات من معجم البلدان حول الرصافة وجامعها، مؤكدًا على قربها من مرقد الإمام الأعظم أبي حنيفة في “الأعظمية”. كما ذكر مختصر تاريخ بغداد أن جامع سوق الغزل هو جامع الرصافة في محلة رأس القرية، على الرغم من أنه اليوم يقع في محلة سوق الغزل.

التضارب في الآراء حول جامع الرصافة وجامع الخليفة أو القصر يشير إلى أهمية التفريق بينهما. وقد أوردت معلومات من “معجم البلدان” للكاتب ياقوت، حيث يُشرح أن الرصافة في بغداد تأسست عندما أمر المنصور بناء جامع في الجانب الشرقي. هذا الجامع أصبح أكبر من جامع المنصور وأجمله. بينما خربت المنطقة، بقي الجامع ومقابر الخلفاء من بني العباس.

في مصادر الاطلاع، يتضح أنه قد تم قطع العمارة عن محلة الرصافة، حيث قام المستنصر بناء سور جيد بالآجر. وفي كتاب “مناقب بغداد” يشير هلال بن الحسن إلى أن المنطقة بين سوق السلاح والرصافة وسوق العطش ومربعة الخرسى والزاهر تضررت بشدة وتخربت بشكل كبير، لا تركت جدرانًا قائمة أو مسجدًا باقيًا، وبين باب البصرة إلى الجهة الغربية تأثرت بشكل كبير.

في رحلة ابن جبير، الذي زار بغداد في سنة 580 هـ (1184م)، وصف المحلة الكبيرة المتاخمة للرصافة، حيث كان يقع مشهد حفيل البناء، وفيه قبر الإمام أبي حنيفة. وفي مخطوط “الحوادث الجامعة” يُذكر حدوث نزاع بين سكان محلة الرصافة ومحلة أبي حنيفة والخضريين، أسفر عن معركة قاسية، حيث قام أهل محلة أبي حنيفة والخضريين بطرد أهل الرصافة إلى باب المحلة وشدوا عليهم بالسيف. بينما تلاحقهم الليل، تفجرت أحداث مأساوية أودت بحياة جماعة من الأفراد، واندلعت حروب إضافية بين الفرقاء.

في هذا المخطوط، تم توثيق سلسلة من الأحداث الغريبة والظواهر الطبيعية التي حدثت في بغداد خلال سنة 653 هـ. من بين هذه الأحداث، كان هناك غرق عام أسفر عن تدمير كبير في مختلف أنحاء المدينة، خاصة في دار الخلافة والأحياء الشطانية. تأثرت الزراعة والأشجار، وتهدمت الجوامع والمساجد، بما في ذلك جوامع هامة مثل جامع المنصور ورباط الزوزني والقبة الخضراء.

يتم ذكر مشهد الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه بالقرب من الرصافة، ويظهر أن جريدة العرب ومجلة المرآة وكتاب مختصر تاريخ بغداد قد أخطأوا في تصنيف جامع سوق الغزل كجامع الرصافة. يستند ذلك إلى سجلات تاريخية ومخطوطات تؤكد أن المنطقة المحيطة بالرصافة تعد موقعًا مهمًا تاريخيًا، وقبر الإمام أبي حنيفة يعكس هذا الأهمية.

تُروى في مقدمة الخطيب تفاصيل حول جوانب جامعي الرصافة والخليفة، إذ تشير إلى أن المهدي بنا جامع الرصافة في بداية خلافته في سنة 159 هـ (775م). كان هذا المسجد المقام في الرصافة هو المكان الوحيد حيث أقيمت صلاة الجمعة في مدينة السلام حتى خلافة المعتضد.

عندما تولى المعتضد الخلافة، قرر بناء القصر المعروف بالحسني على ضفاف نهر دجلة، وأنفق على ذلك مبالغ ضخمة. قام بإقامة مطامير كجزء من القصر، وعندما نزل المكتفي في سنة 289 هـ (901م)، أمر بتدمير تلك المطامير. في مكانها، أمر ببناء مسجد جامع داخل الدار، حيث كان الناس يؤديون صلاة الجمعة ويقضون وقتًا طويلاً فيه. تم رسم المسجد ثانيةً، وبذلك ثبتت صلاة الجمعة في بغداد في المساجد الثلاثة، وذلك حتى فترة خلافة المتقي.

أورد ابن الجوزي في كتابه “مناقب بغداد” تفاصيل حول جامع الرصافة، حيث أكد أن المهدي بناه في بداية خلافته في سنة 159 هـ (775م)، وكان المكان الوحيد حيث أُقيمت صلاة الجمعة في مدينة السلام حتى خلافة المعتضد.

وعندما ولي المعتضد الخلافة، قرر بناء القصر الحسني على ضفاف نهر دجلة وأنفق على ذلك مبالغ ضخمة. وفي هذا السياق، قام بإنشاء مطامير جزءًا من القصر، وعندما نزل المكتفي في سنة 289 هـ (901م)، أمر بتدمير تلك المطامير. في مكانها، أمر ببناء “مسجد جامع”، الذي تم إقامته الآن. تأكد بذلك استمرار صلاة الجمعة في بغداد في المساجد الثلاثة، وذلك حتى فترة خلافة المتقي.

إلى جانب ذلك، أشار ابن جبير إلى حفيلة الأسواق في الشرقية (الجانب الشرقي)، حيث يتم تجمع الناس في ثلاثة جوامع، ومنها “جامع الخليفة” الذي يرتبط بداره، ويتميز بحجمه وبوجود سقايات كبيرة ومرافق متكاملة للوضوء والطهور.

تحدثت المقادير التاريخية والروايات المتفقة حول ثلاثة جوامع رئيسية في الجانب الشرقي من بغداد. أحدها هو “جامع الخليفة”، الذي يرتبط بقصور الخلفاء ويتميز بكونه مرتبطًا بدورهم ويشتمل على سقايات ومطاهر للوضوء والغسل. الجامع الثاني هو “جامع السلطان”، الواقع خارج البلد ومتصل بقصور يُنسب إلى السلطان. أما الجامع الثالث فهو “جامع الرصافة”، وتشير التواريخ إلى أنه يقع بين جامع السلطان وجامع الخليفة بمسافة تقارب الميل.

تبين أن الجامع الحالي يُعرف بجامع القصر أو جامع الخليفة، ويرجى التفصيل حول هذا الاسم، وتوضيح أنه يُشار إليه بشكل مترادف. يُذكر أن المكتفي أمر بتدمير المطامير التي بناها المعتضد في القصر الحسني، وأمر بتحويل المكان إلى “مسجد جامع”، ويُؤكد هذا أيضًا من خلال نقل ابن جبير وابن بطوطة للواقع.

يوضح هذا التفصيل المتسق بين مختلف المصادر حقيقة أن جامع الخليفة وجامع القصر هما واحدان ويؤكد ذلك جمع من المستشرقين البارزين.

تظهر الإشارات إلى أن جامع القصر هو الذي ذكره ابن الأثير بشكل متكرر، بينما يبدو أنه لم يذكر جامع الخليفة، وهذا يثير اعتبارًا بأن المصطلح “جامع القصر” ربما تم قبوله عامةً بدلاً من “جامع الخليفة”. يأتي في سياق ذلك ما نقله ابن الأثير عن “منارة جامع القصر” حيث أكد إكمال المنارة في عهد المكتفي، وهو ابن المعتضد بن الموفق.

يظهر أيضًا أن البنية المشار إليها في قصيدة الشاعر “البناء” كانت تُعرف بمئذنة الرشيد، ولكن تظهر التحقيقات المعاصرة اختلافًا حول بنائها في عهد الخلفاء العباسيين. إذ يُقدم التوضيح حول الجامع الذي تم إعادة بنائه على يد المكتفي، الذي أُطلق عليه أحيانًا اسم “جامع القصر” وأحيانًا “جامع الخليفة”.

يبدو أن البحث في كتاب الحوادث الجامعة سيسهم في الكشف عن تفاصيل بناء المنارة وتحديد زمن البناء بشكل أوضح، وهو موضوع يستحق المتابعة.

ذُكر في مادة حول الحريم، أن “جامع القصر” أو الخليفة هو الذي عرف لاحقًا باسم “جامع الخلفاء”. يقع هذا الجامع في محلة سوق الغزل، ويُعرف اليوم أيضًا بـ “جامع سوق الغزل”، وذلك وفقًا لمعلومات قدمها ياقوت في المادة المتعلقة بحريم دار الخلافة .

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *