ما أن تتذكر بغداد حتى يستعيد الذهن صوراً عن الرشيد والسعدون وأبي نؤاس تلك الشوارع التي كتب على حيطان أبنيتها تأريخ طويل من الفرح والحزن اللذين امتزجا ليكونا لوحة الحياة. ويعد شارع السعدون أحد الشوارع الرئيسية ومركزا مهما وحيويا للعاصمة بغداد لما يحويه من عيادات لأشهر الاطباء في العراق، ومكاتب السفر المتعددة،
والفنادق فضلا عن دور المكتبات الشهيرة ووسائل اللهو والاسترخاء من عناء العمل اليومي وكذلك دور السينما والمسارح والمقاهي ومحلات الأزياء العديدة والمطاعم المتميزة مما كان يوفر البهجة للعراقيين والمرتادين لهذا الشارع.
يمتد شارع السعدون من الباب الشرقي (ساحة التحرير) حتى ساحة الفتح في الكرادة الشرقية بطول ثلاثة كيلومترات ونصف. السعدون الذي تحول من بساتين ومزارع الى شوارع وأحياء بدأ الحياة في ثلاثينيات القرن الماضي،
وكانت بداياته متعثرة كأي مارد في يخرج من قمقمه الى عالم الشوارع، حيث كان بستان الخس الذي هو ألان ساحة النصر الحالية، وكذلك بستان (مامو) فضلا عن مزارع صغيرة اخرى تعد الرابط ما بين البتاويين باتجاه أبو نؤاس، ثم يصبح كسورٍاخضر يحيط بالقصر الأبيض الذي هو محل إقامة الملك آنذاك،
وفي بداية تكوين الشارع وتطوره مع ثلاثينيات القرن وحتى اربعينياته كانت وسيلة النقل الوحيدة هي العربة التي يجرها الحصان والتي تعرف بـ (الربل) .
واستمر العمل بها حتى بعد دخول مصلحة نقل الركاب الحمراء ذات الطابق الواحد او الطابقين، لكنها غادرتنا وللأسف في ثمانينيات القرن الماضي شانها شأن الفرح الذي رحل بقوافله عنا للأبد، وكانت الأحياء التي يخترقها الشارع من أرقى مناطق بغداد ولا يسكنها إلا الأثرياء وميسوري الحال فتجد المسلم واليهودي والمسيحي والعربي والكردي، بل أن هناك مقاهٍ سميت بأسماء الطبقات الميسورة مثلا عمارة النصر كان فيها مقهى التجار اما عمارة النجوم ففيها كازينو حجي زناد التي ترتادها الشخصيات السياسية والمتنفذة، وكذلك كازينو اليهود في عمارة نور التي هي لصيقة لعمارة النصر.. وهذه بأغلبها كانت موجودة حتى منتصف ستينيات القرن الماضي.
كان (شارع السعدون) يستعد كل مساء ليكون قلب بغداد النابض، فيما تخلد الاطراف الاخرى من المدينة الى بعض من الراحة جراء نهار عمل طويل. قبل ان تنطفئ في بغداد معالم كثيرة، و (شارع السعدون) الذي صار الشارع الاشهر في العاصمة بعد غروب مجد (شارع الرشيد)، وتحديدا منذ اواسط سبعينيات القرن الماضي، كان ينبض بالزهو والحياة إذا كنت قد دخلت اليه من جهة اليمين وتحديدا من جهة ساحة التحرير.
ولكننا، وقبل الولوج الى شارع السعدون لابد من ألقاء نظرة على المكان الذي وصلنا اليه في ختام جولتنا في شارع الرشيد والتي تبدأ بمواقف باصات مصلحة نقل الركاب والتي تأخذك الى ساحة النصر أو تستمر الى ألقصر ألأبيض أو المسبح، كما قامت وزارة الأعلام بأنشاء نصب يقدم الأخبار اليومية بشكل ضوئي تتم مشاهدته وقراءة الأخبار منه بكل يسر.
كما أن هناك بار ومطعم نواقيس والى جانبه محلات عديدة للأزياء والأحذية الرجالية ثم بنيت بعدها بناية تشرف على شارع الجمهورية وساحة التحرير تعود ملكيتها لجمعية الهلال ألأحمر العراقية ضمت محلات أزياء كمحلات (شاكر بيبو) الشهيرة كما شغلت قسم منها فترة من الزمن دائرة تابعة لوزارة العمل والشؤون ألاجتماعية وأمامنا يبدو شامخا نصب الحرية للنحات والرسام ألأشهر المرحوم جواد سليم والذي توفي دون أن يرى اكتمال أبداعه الفني هذا وذلك في عام 1962، وأوكل أمر تكملته الى فريق عمل كان على رأسهم الفنان محمد غني حكمت واختيار هذا المكان مستقراً للنصب.
تلك كانت مقدمة لابد منها للتعريف بتأريخ الشارع وأهميته التاريخية والحضارية ندخل بعدها من بوابة الشارع الواسعة من الجهة اليمنى من نفق التحرير الذي كان سبباً في هجرة تمثال عبد المحسن السعدون من هناك، صوب ساحة النصر بعد أن تم العمل فيه عام 1972. ستجد مكتباته الأصغر سناً من أكبرهن مكتبة (المثنى) التي تلتف من عمارة مرجان باتجاه السعدون وهي امتداد للمكتبة نفسها في شارع المتنبي والتي أسسها قاسم محمد الرجب عام 1936.
ونجد مقابلها مكتبة التحرير ومكتبة الحضارة العربية ومكتبة الشروق، ومجاور مكتبة التحرير كانت تقف عربة لبيع الكتب اشتريت منها كتابي الأول وهو (أوليفر تويست) للكاتب جارلس ديكينز. ولا ننسى كشك المطبوعات والصحف والمجلات التي كانت تديره ألسيدة شرقية الراوي وبقيت تمارس عملها فيه فترة طويلة وقد وضع بجانب مدرسة الراهبات للبنات والتي سميت بعدئذٍ مدرسة العقيدة. نعود الى عمارة فاطمة مع استدارة الشارع جهة اليمين وبعد أجتيازنا للمكتبات نصل الى مطعم (كيت كات) الشهير وهو مجمع للشباب، فتيانا وصبيات ناضجين ويافعين محبين ومحبات بكل ما وهب الله لمجتمعاتهم من الحرية يتناولون منه الحلويات في فصل الشتاء،أما في الصيف فتقدم فيه الدوندرمة المطروقة أو ما تسمى (الثعلبية) وتزين بالفستق الحلبي، وقد خصص صاحب المحل الطابق الأعلى للعوائل، اما الطابق الأرضي فهو للشباب والذي كان ينقلب الى مزار وخصوصا أيام الأعياد.
وليس ببعيد عنه مطعم (أكسبريس فلسطين) الذي أغلق محله بعد فترة فاسحا المجال فقط لحلويات ومرطبات كيت كات لتنفرد بالساحة تلي المكتبات والمطاعم باب يؤدي بنا الى داخل مدرسة الراهبات للبنات يقف عليها شخص يدعى (أدم) كان قمة في الالتزام والمحافظة على الطالبات.
ونستمر الى الشارع المؤدي بنا الى مطعم نزار للأكلات البغدادية التي كان يديره أل رزوقي، وليس ببعيد عنه حلويات الحاج جواد الشكرجي وبجواره مكتب كلارنس ونجيب كساب للأعمال الأدارية والمحاسبية. وكان محل حلويات جواد باقر الشكرجي يأخذ مكانه بين المكتبات وكأنه يقول لك في اللهجة العراقية الدارجة(حلي واقرأ.). وأنت تدخل الزقاق الأول من جهة اليمين باتجاه شارع ابي نؤاس لا يمكنك أن تتجاهل مقهى (إبراهيم) والتي اشتهرت بمقهى (المعقدين) . والمعقدين كلمة أطلقها أحدهم على المثقفين الذين يملأون المقهى وفيه يطرحون قصائدهم وحواراتهم الثقافية في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وللأسف لم يبق فيه اثرا لكاتب او بقايا قصيدة للراحل عبد الأمير الحصيري. بل وجدنا بدلاً من ذلك أوراق بوكر تتقافز بين الأيدي وأدوات الدومينو ودخان الناركيلات الذي يملأ المكان وصاحب المقهى يدعى (محمد جعفر مهيلة) وهو يمارس عمله في المقهى علما ان اصحاب المقهى إبراهيم وخليل تركوا المقهى لصاحبه الجديد الذي حول اسمه إلى مقهى عبد الكريم قاسم.
تركناه وتوجهنا إلى أحد المطاعم الشهيرة وهو مطعم ابن سمينه. لهذا المطعم شهرة خاصة لما يقدمه من أكلات عراقية معروفة أشهرها القوزي على التمن، وشهرته تأتي من نكهة الدهن الحر الذي يواظب أولاد الحاج المرحوم حسن ابن سمينه على استخدامه في الطبخ…
كما أفتتح في نفس المكان مطعم سمي مطعم (أبن ضعيفة) لعكس التسمية وتحقيق أكبر قدر من الدعاية وطعامه كان لا يقل جودة ولذة عن مطعم أبن سمينة، في الجانب الأخر من الشارع يقف جامع ألأورفلي الشهير وقد شيد من قبل الحاجة نجية الاورفلي وهي زوجة السياسي المعروف احمد عزة الاعظمي عام 1952. وقد بني الجامع من طابوق (الجفقيم) وهي صناعة بغدادية خالصة للطابوق وفق مواصفات خاصة يفرضها البناؤون، وقد تعرض باب الجامع الذي يعد تحفة فنية رائعة الى اضرار كبيرة بسبب التقادم وعاديات الزمن … وعلى نفس الاتجاه تجد مطعم (تاجران) الذي يديره صاحبه أبو علي تاجران.
خرجنا من المطعم باتجاه شارع كان لا يعرف النوم أبداً بمسارحه وملاهيه ودور السينما التي لم تعرف النعاس ولا باراته التي لم تخلو من الرواد طيلة أيام الأسبوع ولا مقاهيه المزدانة بأجواء الراحة والنقاشات والتمتع بأجواء هذا الشارع الساحرة.
ومن المقاهي الشهيرة مقهى ألأورفلي التي تحولت بعدها الى سينما ألأورفلي ثم تغيرت الى سينما السندباد. وكنا أيام الأعياد زمن الطفولة البريء نتزاحم على مقاعدها لمشاهدة أفلام شمشون وستيف ريفز في أدواره في أفلام هيركوليس وغولياث…
ثم نركض بعدها أما الى مطعم نزار أو تاجران لغرض تناول الغداء أو نختار العودة الى شارع الخيام والى مطعم كباب حلب لنسعد بنفر (كباب شامي) منه والذي كان دخوله حديثاً للعراق.
بعدها نختتم اليوم بتناول الحلويات عل كراسي كيت كات والبقلاوة الشهية ونتسكع بقية اليوم بين جنبات حديقة ألأمه ولاننسى أن نأخذ صورة جماعية نؤرشف بها خروجنا الجماعي يوم العيد قبل العودة للبيوت، وليس بعيد عن سينما السندباد كان هناك محل طرشي (العيدروسي) المشهور ورائحة الطرشي والزيتون تقتحم ألأنوف.
وهناك محل كان أسمه (محل ألذرّة) لبيع المواد الكهربائية المختلفة وأنواع السخانات النفطية، وفي الشارع المحاذي والمؤدي الى شارع أبي نؤاس كانت مواقف سيارات الأجرة الى القصر ألأبيض ومنطقة العلوية.
وكانت منطقة البتاويين ومنطقة القصر الأبيض من أرقى المناطق السكنية في بغداد، في العقود التي تلت وبعد تحوله إلى شارع تجاري رئيسي بدأت العوائل ذات الدخل العالي بالإنتقال إلى مناطق أكثر هدوءا وتحولت البتاويين والقصر الأبيض إلى مناطق أقل رقيا وبدأ يسكنها بعض العمال وذوو الدخل المحدود. وفي شارع السعدون، اشتهر مطعم (الشمس) الذي كان يقع بجوار سينما السندباد بتوصيل طلبات الزبائن بواسطة الدراجات الهوائية، وكان ينافس هذا المطعم، مطعم (تاجران) الذي كان يقابله من الجهة الثانية من الشارع كما وجد أيضاً مطعم السعدون الذي يشتهر بأكلة (الكريم جاب) .
منطقة البتاويين
جاءت تسمية البتاويين من كلمة (البتة) وهي قرية من قرى الحلة وقد هجرها بعض اهلها ليستوطنوا ويعملوا في بساتين هذه المنطقة كبستان (مامو) أو بستان (الخس) والتي كانت قديما خارج اسوار بغداد وكان يطلق عليها منطقة البتّاويين نسبة الى اهل البتة الذين سكنوها ومارسوا الزراعة على ارضها فيقال لمن سكنها هذا بتّاوي وسمي الحي بحي البتّاويين او البتّاوين.
وكان معظم قاطني دور هذا الحي وعلى جانبي شارع السعدون من اليهود وكلما سرت بعيدا عن الباب الشرقي باتجاه الكرادة ترى الدور امست أكبر مساحة والشوارع اوسع منها في البيوت الاقرب ويبدو انها كانت قد رصفت حديثا في ذلك الوقت .
وعند اتجاهنا صوب ساحة النصر، والطريف ان ساحة النصر الشهيرة لا علاقة لها بالعراق بل جاءت تسميتها من قبل الانكليز الذين احتلوا العراق بعد انتصارهم في الحرب العالمية الاولى على الألمان عام 1918، وظلت منذ ذلك الوقت لم يتبدل اسمها، وربما الاسم فيه اغراء ودهشة وحلاوة سماع الكلمة. وتكثر في هذه المنطقة عيادات الأطباء والصيدليات والمذاخر الطبية التي تلبي حاجة المرضى من مختلف مناطق العراق في بحثهم عن طبيب مشهور يداوي عللهم.
كما كانت تطل على الساحة أفران السعدون للصمون ألأوتوماتيكي وهو أول من قام بخبز الصمون (اللوف) في بداية ستينيات القرن الماضي في وقت لم يكن يعرف أهالي بغداد هذا النوع من الصمون، وكنت ترى طوابير المشترين تنتظر خروجه من الفرن لشرائه حاراً ولذيذاً مع رائحته المميزة.
يطل على الساحة الشهيرة نصب يمثل عبد المحسن السعدون رئيس الوزراء ألأسبق الذي مل من وعود الإنكليز له وتهربهم من التزاماتهم مما كان يضعه في مواقف محرجة مع المواطنين فآثر الانتحار ليضع حداً لمعاناته الشديدة وقد قام بعمل هذا النصب النحات الإيطالي (بياترو كانويكا) الذي يعد من أبرز الفنانين الايطاليين في عصره، ومن أعماله الاخرى التي انجزها في العاصمة التركية انقرة تمثال مصطفى كمال اتاتورك مؤسس دولة تركيا الحديثة، كان موقع التمثال قديما عند ساحة التحرير الأ أنه نقل الى ساحة النصر سنة 1972 عند البدء بأنشاء نفق التحرير، الذي قسم الساحة ألى نصفين وغطى على الناظر رؤية نصب الحرية بوضوح ففقدتا جزءا كبيرا من جماليتهما.
نصب السعدون عند ساحة التحرير في الخمسينيات قبل نقله الى ساحة النصر موقعه الحالي وتطل على الساحة كازينو السعدون الصيفي، حيث تنتشر الأرائك والكراسي مكتضة بالرواد الذين يؤمونها كل يوم في جلساتهم التي تشرف على الشارع العام وعلى المارة في حركتهم الدؤوبة على طول رصيف الشارع. وبالقرب من ساحة النصر في حال المضي قدما في (شارع السعدون) تنتشر الكثير من البارات التي كنت أكره منظرها المطل على الشارع حيث كان يتبارى كثير من روادها بمنظر تجميع أكبر عدد من قناني البيرة على موائدهم، ضمن مشهد للشراهة كنت اجده غاية في البذاءة والسلوك الرخيص ألا أن ألأفضل بينهم كان مطعم (كناري) وجلساته الأثيرة في الطابق العلوي وخاصة في ليالي الشتاء وبعد الخروج من الجامعة. نتجه الى الموقع الذي شغلته سينما النجوم والتي عرضت أفلاما رائعة قبل أن ينحدر مستوى هذه ألأفلام لتصبح مكرراً لما يعرض في السينمات الهابطة كميامي وروكسي والسندباد.
وليس ببعيد عنها هناك سينما أطلس. وفي تلك الفسحة من شارع السعدون، وتحديدا القريبة من (سينما أطلس)، كان المقهى المطل على الشارع انطلاقا من مدخل دار السينما ذاتها، وفيه كان يتجمع هواة الشطرنج ومدمنو الطاولي ورجال ونساء ينتظرون موعد بدء العروض السينمائية، الا انني نادرا ما اختبرت الجلوس في المقهى حتى في حال انتظاري بدء العروض وكنت أفضل الدخول الى مكان قريب هو (تسجيلات صوت الفن الحديث) الذي كان عمد الى تقليد جميل لم اتعرف اليه لاحقا الا في مدريد، وهو في تخصيصه اجهزة تسجيل مع (هيد فون) يمكن من خلالها للزبائن ان يستمعوا الى ما يفضلونه من الحان واغنيات قبل اقتنائها. وعبر ذلك التقليد كان يمكنني ان أنتشي بالحان قصيرة، تبدأ من (هوتيل كاليفورنيا) للفريق الغنائي (Eagles) ولا تنتهي بجديد السمراء البريطانية التي ذاع صيتها منتصف سبعينيات القرن الماضي (تينا تشارلس)، مرورا بفيروزيات عذبة كثيرة. ومن الامكنة التي كانت ترّق لي كثيرا في شارع السعدون، وتنقلني الى ايحاءات عدة، تتمحور في فكرة السفر والاتصال مع المجتمعات الاخرى، كانت مكاتب شركات الطيران الأجنبية.
فكان مكتب (لوفتهانزا) بلونيه العميقين الازرق الغامق والاصفر، كما لوني الشركة، ومكتب (اير فرانس) بألوانه الابيض والأزرق والاحمر كما العلم الفرنسي، ومكتب (إيران اير) بعلامته المميزة لرأس حصان اسطوري أقرب الى الطيران ومكتب أير أنديا فضلا عن (مكتب توماس كوك) المختص بإصدار (الترفل تشيك) الذي عادة ما كان يفضله المسافرون كوسيلة لتأمين المال في خارج البلاد بدلا من حمل النقود، وهو ما كان أقرب اليوم الى (بطاقات الضمان)، لقد كان مكتب الشركة المالية الشهيرة درسا في الاناقة والترف، لجهة بساطته ولكنها بلاغة الساطة وغنى ملامحها.
الاناقة المكتبية تلك كانت تجد صداها في مكاتب شركات عراقية مختصة باستيراد الساعات الثمينة وبيعها جواد الساعاتي ووكالة شركة (رادو) وقبلها (رولكس)، وتتناثر مكاتب السفر ألأهلية بكثرة جنبا الى جنب مع مكاتب السفر الرسمية ومنها وكالة سفريات الجزائري ومكتب سفريات ما بين النهرين للزميل (صلاح الملا) ومكتب الضاحي وأيضا يبرز مكتب الخطوط الجوية العراقية على ركن الشارع الذي يضم بين جنباته سينما سمير أميس ألأنيقة والتي سنتكلم عنها بشيء من التفصيل.
عام 1970 لم يكن عاماً تقليدياً على صالات العرض السينمائي في بغداد وبعد انفتاح بعض موردي الأفلام على مساحات جديدة في شراء الأفلام، او المشاركة في عرضها ضمن اتفاقات معينة على سعر ما. وكانت حينها سميراميس من الصالات الحديثة والمفتتحة في بغداد نهاية الستينيات، وهي بحق صالة تحتوي على الكثير لتكون دار عرض حديثة. إذ يواجهك بعد أن تقطع تذكرة الدخول رواق طويل، يستقبلك من جهتي الدخول، على يمينه نوافذ زجاجية رائعة معلقة عليها بوسترات الأفلام التي ستعرض لاحقاً وابتداءً من الفيلم المعروض وانتهاءً بالفيلم الذي سيعرض بعد عدة أسابيع، وهي مناسبة كي يتهيأ المتلقي ويحسب حسابه للأيام القادمة لفكرة العرض وقبوله بوضع برنامج المشاهدة، وكان الجانب المقابل يحتوي على سلم وتحته هناك بعضاً من الكراسي القليلة ذات الطراز الجميل والمحترم، مع شباك صغير مطلي بالزجاج يقدم المشروبات والكرزات والسكائر، بشكل جميل ورائع، ثم يبدأ السلم لينتهي بوجود مجموعة من الكراسي المتراصة حديثة الشكل تتوسط القاعة الصغيرة والتي تشبه ( الكافتيريا) المخصصة للانتظار والتي تطوقها مجموعة من قطع الزجاج المستطيل والذي هو عبارة عن قطع من المرايا حيث يتجسد الحضور ويتعدد ليصبح الجالسون والواقفون والذين لا يتجاوز عددهم الثلاثين ليصبح ومن خلال مساقط المرايا لأكثر من مئة بفعل التعدد البصري داخل المرايا المتعاكسة.ولأن الجالسين ينتظرون نهاية العرض الأول أو الثاني أو الثالث وحسب الأوقات المعلنة والتي لا يتم تجاوزها بفعل التقليد والانضباط العالي والذي تأسس بفعل البرامج الخاصة بدور العرض العالمية ولتكون اغلب دور العرض في بغداد ملتزمة في هذا الاجراء من(غرناطة) الى (النصر) الى (الخيام) وحتى (بابل) واكثرها في هذا التزاماً وتقليداً هي صالة سينما (سميراميس).
كان الوقت ربيعاً، حين عرضت سميراميس فيلم (Z) المثير للجدل والحديث في طروحاته، كان الحضور طاغياً ساعة الإعلان عن تعليق بوسترات فيلم (Z) وقد انقطع الطريق المؤدي للدخول الى صالة سينما سميراميس من جهتي الدخول، إذ يبدأ المدخل الأول من جهة شارع السعدون بوجود محل مرطبات الموعد المعروفة وهو محل نظيف وجديد لبيع المرطبات تتخلله بعض الكراسي والطاولات لجلوس بعض الرواد من الإناث والذكور، حيث لم تنقطع ظاهرة الرواد من كلا الجنسين في صالات العرض السينمائي في بغداد الاّ حين دخلت الحرب العراقية الإيرانية بداية الثمانينيات. ضغط على الشباك من جانب المدخل الأول. وضغط أكبر على الشباك الثاني الذي يبيع التذاكر من جانب المدخل الثاني. ولم يعد مع الضغط المتصاعد صوت بائع التذاكر والذي يجلس خلف شباك صغير لا يحتمل دخول أي شيء أكبر من كف آدمية واحدة، حيث يصرخ بأن يقف الجميع ضمن طابور حتى يتم قطع التذاكر بشكل مريح. ولكن هيهات أن يكون لصوته قبول من جهة الضغط المتصاعد من الحضور الذي ضجت به ممرات القاعة الداخلية للصالة