تدور حكاية هذا الجامع العظيم، بقبابه الشامخة ومآذنه الرفيعة وفناءاته الفسيحة، حول شخص من أصل نبيل قدم إلى بغداد بحثًا عن المعرفة. استقر الشاب في إحدى مدارس العلوم الرائدة في القرن السادس للهجرة، وهي مدرسة القاضي أبي سعد المخرمي. تأتي هذه المدرسة في قلب منطقة باب الأزج، حيث أصبح الطالب الطموح أستاذًا محترمًا، يجذب طلابه من مختلف الاتجاهات. يرتقي صيته إلى آفاق جديدة، وتنتشر سمعته بين الناس، حتى يصبح المكان مسجدًا جامعًا يستقبل المصلين من كل حدب وصوب، فتكرمت هذه المؤسسة العلمية وأصبحت جزءًا من التاريخ المترع بالحكمة والدين.
يظهر الجامع، الذي أصبح قلبًا حيويًا للعديد من المؤسسات الخدمية، كمأكلة للفقراء ومأوى للمحتاجين، ومستودع لكنوز من الكتب الخطية الثمينة. تضم المكان أيضًا مقبرة تحتضن أعلامًا من الناس، وتحول إلى مدرسة تقبل الطلاب من مختلف الأقطار. يتربع الشيخ عبد القادر الكيلاني على هذا المكان الرائع، حيث وُلد في أسرة نبيلة وتلقى العلم في بغداد، مُتقنًا القرآن والفقه والتصوف. درس في مدرسة القاضي المخرمي وأسس لنفسه مكانة مرموقة. امتدت تأثيراته إلى الناس، حيث أصبحت المدرسة مركزًا للعلم والتأمل، واستمرت توسعتها لتشمل مجتمعًا واسعًا. توفي الشيخ عبد القادر في عام 561، تاركًا إرثًا عظيمًا من المعرفة والتأثير.
تاريخ جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني يتجسد في تفرده وريادته بباب الأزج، حيث ألقى الشيخ كلمات الوعظ واشتهر بالزهد والتواضع، وكان له حضور هادئ وريادي. بعد وفاته، استمرت المدرسة في ريادة التدريس بيد أبنائه، مثل أبو محمد عبد الوهاب سيف الدين وابنه عبد السلام الركن. رغم محنة الاحتلال المغولي لبغداد في 656هـ/1258م، نجحت المدرسة في استئناف نشاطها العلمي والروحي. تطورت المدرسة مع مرور الزمن لتصبح جامعًا كبيرًا يؤمه الناس للصلاة، مع إضافة مدرسة وزاوية للإيواء وتقديم الطعام للفقراء. اليوم، يعتبر جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني من أكبر الجوامع في العراق، مع تاريخ طويل يجسد تراثًا ثقافيًا مميزًا يزين مدينة بغداد.
الزيارة إلى جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني تكشف عن آثار العصور الماضية وتنثر عبق الماضي الجليل. يُفتح للزوار اليوم من خلال الباب الجنوبي الكبير، والذي يُرجح أن تأسيسه يعود إلى نهاية القرن الثالث عشر للهجرة. فور دخول الباب، يظهر الزائر أمامه مئذنة ضخمة تُعرف بالمئذنة الكبيرة، تعكس طراز العصر العباسي. يتصل الفناء بالمئذنة عبر جسر أو قنطرة بنيت بالطوب على قوس مدبب. يُقابل الزائر عند اليسار برواق شرقي فسيح، بُني في عام 1085هـ/1674م وتُجدد في عام 1139هـ/1726م. تم تجديده في عام 1281هـ/1864م بإضافة كتابة بخط الثلث تُظهر نسب الشيخ عبد القادر الكيلاني. في تجديد لاحق في عام 1385هـ/1966م، تم استبدال كسوة الرواق المزججة بقطع من الرخام الأبيض المؤطر بالأسود. يتميز المصلى بمحراب مزخرف بقطع من البورسلين الأوروبي. يحتل المنبر مكانة بارزة، مرفوعًا على أعمدة من الرخام، ويزين بنصوص كتابية تُظهر جمال الخط النابغ هاشم البغدادي.
بجوار المصلى الرئيس في جامع الشيخ عبد القادر الكيلاني، يتوسط رواقان تاريخيان يرتبطان بسنة 982هـ/1574م. في التطورات اللاحقة، تحول أحدهما إلى مصلى يُعرف بجامع الشافعية، بينما تم تسمية الآخر بجامع المالكية. تم تجديد الرواق الأخير على يد سيد سلمان القادري الكيلاني في سنة 1295هـ/1878م، وتم تجديده مرة أخرى في سنة 1359هـ/1940م، ثم أُعيد تجديده بشكل شامل في سنة 1391هـ/1978م. أما الرواق الأول، أو جامع المالكية، فقد شهد توسعًا في عام 1964، حيث أُضيفت إليه مدرسة تحاذي شارع الكيلاني، مما جعله واسعًا ومتسعًا. يتصل هذا الجناح بجناح آخر طابقين يُطلان مباشرة على الفناء، ويقابل الجامع تمامًا. يشمل الطابق العلوي قاعات للمطالعين ومكتبة المدرسة القادرية العامة، التي تضم آلاف المخطوطات الثمينة والمطبوعات النادرة في مجالات مختلفة من العلوم الإسلامية. في الجهة الغربية، المتصلة بقاعات المكتبة، يضم الجناح المدرسة القادرية التي تقدم دروسًا في العلوم الإسلامية، حيث يتخرج الطلبة تحت إشراف كبار العلماء، مما يوفر خدمات ومرافق تسهم في مهمتها العلمية.
في زوايا جامع السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني، يتفرّد الرواق بشرفة واسعة تطل مباشرة على فناء الجامع. نصل إلى نهاية حجرات المدرسة لنجد سلمًا ينقلنا إلى فناء الجامع، حيث يتسلّط برج الساعة المزخرف على الأفق. يُقام هذا البرج الشاهق بالآجر سنة 1317هـ/1899م، ويحمل ساعة إنكليزية تعمل بالأثقال. المؤشرات الأربع للساعة تُثبت على هيكل خشبي فوق البناء، مع بُنية خشبية تضم آليتها وأجراسها. يظهر على كتف الباب الغربي مئذنة رشيقة بنيت بالطراز البغدادي الأصيل في عام 1294هـ/1877م. تجددت مؤخرًا بشكل يُعزز قوتها وثباتها مع الحفاظ على جماليتها التقليدية. في فناء الجامع، تتوسط دكة صيفية كبيرة، وتشير المسافة بين مصليه وبين شارع الملك غازي إلى وجود مقبرة تضم رفات علماء وصالحين، بما في ذلك رئيس الوزراء الأسبق عبد المحسن السعدون. يتسلّط الضوء أيضًا على بقايا سقاية الماء التي كانت تتلقى مياهها من قناة مرتفعة، وقد سُجّل وجودها منذ القرن الحادي عشر للهجرة. إن جامع السيد الشيخ عبد القادر الكيلاني ينبض بتاريخ حافل، حيث ازدهرت فيه الثقافة والروحانية، مجذوبة علماءً وطلبةً لاستنباط علومه الإسلامية، وأُجيز فيه الفنانون بتزيينه بكل جمال، ونُقشت جدرانه بأحرف الخطاطين الذين زينوه بأجمل أنواع الخطوط، وبين أروقته يحتضن رفات الصالحين الذين سطعت شخصياتهم في تاريخ هذه المدينة العريقة.