لم تدخل مشاريع سكك الحديد في العراق حيز التنفيذ إلا في نهاية القرن التاسع عشر على الرغم من كثرة الدراسات والمشاريع التي قدمتها الدول الأوربية – خاصة بريطانيا – لتنفيذ مثل هكذا مشاريع، لهذا نقدم صورة عن أهم المشاريع والدراسات التي تم تقديمها في هذا المجال والتي بقيت حبرا على ورق بسبب الصعوبات والعوائق التي وقفت حائلاً دون تنفيذها باستثناء الجزء الصغير من مشروع سكة حديد برلين – بغداد وتحديدا المنطقة المحصورة بين بغداد وسامراء، ونلحظ في هذا المجال انفراد بريطانيا بإنشاء عدد من مشاريع سكك الحديد وتحديداً إبان فترة احتلالها للعراق (١٩١٤ – ١٩١٨م) والتي جاء تنفيذها تحقيقاً لأهداف آنية وعسكرية بحتة، مما سهل نقل القوات والامتدادات العسكرية، واعتبرت من النقاط السلبية لواقع السكك الحديدية خلال فترة الحكم البريطاني للعراق.
لذا نقول: إن العراق شكل نقطة استقطاب من الدول الأوربية لاسيما (بريطانيا) التي أولت اهتماما متميزاً للعراق، نظرا للموقع الاستراتيجي الذي يتمتع به بوصفه أقصر الطرق البرية للاتصال بالهند عن طريق الخليج العربي.
تعد سكك الحديد إحدى أهم الجوانب التي ركزت عليها بريطانيا في إطار اهتمامها بالعراق، وعلى هذا الأساس قدمت العديد من الدراسات والمشاريع الخاصة بسكك الحديد، وأجمعت على اختيار العراق مجالاً حيوياً لعبورها.
يرقى تاريخ أول محاولة في هذا النهج في عام ١٨٣٠م عندما اقترح أحد موظفي السكك الحديد الهندية مشروعاً للسكك الحديد يربط بين البحر الأبيض المتوسط والخليج العربي، فيما شهد العقد الرابع من القرن التاسع عشر طرح العديد من الدراسات والمشاريع التي لم تدخل حيّز التنفيذ لأسباب مختلفة، وتعد بعثة فرنسيس رودن جسني (FR chesney) للفترة (١٨٣٠ – ١٨٣٢م) أول من لفتت أنظار الحكومة البريطانية إلى أهمية سكة حديدية بموازاة نهر الفرات عبر حلب نحو الخليج العربي، ومن المفيد بالإشارة إلى أن جسني كان من أشد المتحمسين لفكرة هذا المشروع.
وفي عام ١٨٥٦م قدم وليم اندرو (William Andrew) رئيس شركة دلهي – البنجاب والسند للخطوط الحديدية مقترح مشروع سكة حديد (وادي الفرات)، إذ تقوم فكرة المشروع على مرحلتين، تقوم المرحلة الأولى على إنشاء سكة حديد، تمتد من ميناء الإسكندرونة على البحر المتوسط إلى الخليج العربي، يتم بعدها الاتصال بالهند عن طريق وسائل النقل الحديثة، أما المرحلة الثانية من المشروع فتضمنت تمديد مد الخط إلى البصرة أو الكويت.
حظيت فكرة المشروع بالقبول من لدن الحكومة البريطانية، وعلى إثرها تم تشكيل شركة الفرات للسكك الحديدية التي استحصلت من الحكومة العثمانية على امتياز لمد الخط، لكن المشروع لم ينفذ بسبب إحجام رؤوس الأموال البريطانية عن المشاركة فيه.
لكن تلا هذا المشروع مشروع بريطاني آخر وهو سكة حديد (وادي دجلة) الذي حظي بمساندة وليم إندرو، وكانت فكرة المشروع تقوم على أساس مد خط سكة حديد تربط ديار بكر والموصل وبغداد والكويت، لكن الصعوبات المالية وقفت حائلاً دون تنفيذ المشروع.
وعلى ما ظهر فإن هذه المشاريع كانت مجرد اقتراحات تحمّس لها أصحابها، إلا أن حكومتهم أحجمت عن تقديم الدعم المالي المطلوب لتنفيذها، فقد اعتبرتها مشاريع وهمية وغير مربحة، ويلحظ أن بريطانيا عارضت فكرة إنشاء مثل هكذا مشاريع لأن هدفها الرئيسي إبعاد أي تغلغل أجنبي في المنطقة ضماناً لطرق مواصلاتها ومصالحها، إذ سياستها كانت تتركز بشكل رئيسي على إيقاف أي توغل أجنبي وأصبحت حرة من حيث موقفها من مشاريع المواصلات المقترحة طالما ضمنت المنطقة لصالحها وغدت خالية من أي قوة أخرى.
سبق وأن قلنا أن مشاريع السكك الحديد في العراق دخلت حيز التنفيذ بعد تزايد اندفاع ألمانيا نحو الشرق، وخاصة بعد التقارب العثماني – الألماني في عهد الإمبراطور (فردريك وليم الثاني Fwilliam 2nd ١٨٨٨ – ١٩١٨م)، وحصل الألمان نتيجة هذا التقارب على امتياز سكة حديد تمتد من برلين إلى بغداد.
وكانت هناك العديد من الأسباب السياسية والاقتصادية والعسكرية قد دفعت الدبلوماسية الألمانية إلى بذل الجهود للحصول على موطئ قدم داخل الدولة العثمانية، والتي تزامنت مع ظهور ألمانيا كقوة سياسية واقتصادية على الساحة الدولية في أعقاب تحقيق الوحدة الألمانية عام ١٨٧١م وما أعقبها من نهضة الاقتصاد الألماني وحاجة ألمانيا إلى مجالات حيوية عالمية لاستثمار رؤوس أموالها فضلاً عن إيجاد أسواق جديدة لتصريف منتجاتها خارج أوربا، لذا نرى أن الإمبراطور الألماني (فردريك وليم الثاني) وجد من خطوط السكك الحديد خير وسيلة لتحقيق هذا الهدف من خلال بناء شبكة من الخطوط تمتد من البسفور عبر الأناضول إلى حلب مع فرع يمتد من حلب إلى سوريا ومنه إلى شبه الجزيرة العربية، وفرع آخر يمتد عبر العراق ومنه إلى الخليج العربي فاذا ما تم مد هذه الشبكة أصبح بالإمكان ربط هذه الخطوط بالأناضول ومنها إلى وسط أوربا، ويبدو أن ألمانيا كانت تهدف من انتشار هذه الشبكة من خطوط السكك الحديدية هو تأمين سيطرة ألمانيا على خطوط المواصلات بين أوربا وآسيا وتهديد النفوذ العسكري والتجاري والسياسي لبريطانيا، ولهذا السبب جاءت المعارضة البريطانية لإنشاء السكك الحديدية.
ومما لا شك فيه أن الأهداف الاقتصادية شكلت إحدى الأهداف الرئيسية لتوجيه الأنظار نحو مشاريع السكك الحديد، لا سيما سكة حديد برلين – بغداد، نظراً للثروات الكامنة في العراق والتي تجسدت من خلال التقارير التي رفعها الخبراء الألمان الذين توافدوا على العراق اعتبارا من عام ١٨٧١م، وتأكيداتهم المستمرة على أن العراق يطفو على بحيرة من النفط وان فيه ثروات واسعة مطمورة، ناهيك عن الاهتمام الكبير الذي أبدته ألمانيا لزراعة محصول القطن في العراق، لذا نرى أن ألمانيا أثر حصولها على امتياز سكة حديد برلين – بغداد العديد من الخطط للتوسع في زراعة القطن، فضلا عن تشجيع الفلاحين العراقيين على زراعة القطن أثناء إنشائهم لسكة حديد بغداد – سامراء.
لقد تزامنت محاولات ألمانيا تلك مع تبني السلطان العثماني عبد الحميد الثاني (١٨٧٦ – ١٩٠٩م) لسياسة قائمة على تشجيع ألمانيا دون غيرها من الدول الأوربية.
لذا نرى أن العثمانيون أعطوا الأفضلية إلى الشركات الألمانية دون غيرها من الشركات الأجنبية بالحصول على الامتيازات الاقتصادية داخل الدولة العثمانية وذلك لاعتبارات عدة حيث لم يسبق لألمانيا أن استولت على أراضي تابعة للدولة العثمانية فضلا عن عدم وجود مطامع لألمانيا في الأراضي العثمانية.
والتساؤل الوارد هو: ماذا كانت تبغي الدولة العثمانية بالسماح لإقامة مثل هكذا مشاريع على أراضيها، كانت الدولة العثمانية تسعى لتحقيق عدة أهداف، لعل في مقدمتها محاولة ربط أقاليمها ولا سيما الآسيوية منها، فضلاً عن تحقيق هدف رئيسي هو فرض السيطرة المباشرة على رعاياها في سوريا والعراق والجزيرة العربية حتى لو استدعى الأمر استخدام القوة العسكرية، لأن الدول الغربية كانت إبان هذه الفترة تسعى للحصول على مكاسب لها في أراضي الدولة العثمانية المترامية الأطراف والتي يمكن استثمارها اقتصاديا أو عسكريا ويدخل في ذلك جهود روسيا القيصرية للوصول إلى المياه الدافئة (الخليج العربي)، ومحاولات فرنسا المستمرة للتدخل في الشؤون الداخلية للدولة العثمانية بغية تعزيز نفوذها المالي فيها، وجهود بريطانيا للحصول على موطئ قدم في مصر وفرض سيطرتها السياسية على إمارات الخليج العربي، كل ذلك أثار مخاوف السلطان وتحفظه إزاء كل مشاريع سكك الحديد التي عرضتها هذه الدول لتطوير شبكة سكك الحديد في الدولة العثمانية، كما يلحظ إن الدولة العثمانية كانت تهدف من تشجيع ألمانيا على إقامة مشاريع اقتصادية هدفها تنشيط الحركة التجارية في أراضي الدولة العثمانية وكذلك الموارد التي سيدرها تنفيذ هكذا مشاريع على الخزينة العثمانية التي كانت تمر بضائقة مالية شديدة إثر إعلان إفلاس الحكومة العثمانية عام ١٨٧٥م، مما اضطرت إلى تشكيل إدارة الدين العثماني عام ١٨٨١م حيث تألف مجلس إدارتها من مندوبي بريطانيا وفرنسا وألمانيا وهولندا وإيطاليا والنمسا – والمجر الدائنين للعثمانيين المحليين “صيارفة غلطة” وأحد أعضاء إدارة الدين العثماني وكان الغرض من إنشاء هذه الإدارة إقامة آلية للنظر في الديون والإشراف على الإجراءات اللازمة لإيفاء الدولة العثمانية بالتزاماتها لدائنيها، وجاء تشكيلها في إطار جهود الدولة العثمانية لضمان أفضل السبل لتأمين استحصال هذه الدول لديونها من الدولة العثمانية.
لقد جاء اقتراح ألمانيا بإنشاء خطوط سكك الحديد وتحديداً خط سكك حديد برلين – بغداد متوافقا مع أهداف الدولة العثمانية، فالخط الحديدي المقترح يعني بالنسبة للعثمانيين تأمين استمرارية المواصلات بين إسطنبول وشمال البلاد وكذلك مع حلب ودمشق وبيروت ومكة المكرمة فضلا الموصل في الجنوب والشرق.
حققت الدبلوماسية الألمانية نجاحاً عندما تم إبرام اتفاق عام ١٨٨٨م وتضمن منح الحكومة الألمانية امتياز إنشاء سكة حديد حيدر باشا – أنقرة، أعقبه حصول ألمانيا على امتياز جديد يقضي بمد الخط من قونية إلى الخليج العربي مرورا ببغداد، حيث تم التوقيع على الاتفاق الأولى عام 1899 تم بشكله النهائي في 15 آذار 1902م. وقد تألفت بنود الاتفاق من (12) مادة حصلت بموجبه شركة سكة حديد بغداد على امتياز من الدولة العثمانية لمد وتشغيل سكة حديد من قونية مرورا بالأراضي السورية ومنها إلى العراق ثم يمتد على طول نهر دجلة إلى بغداد مرورا بتكريت وسامراء وتتجه جنوبا نحو الخليج العربي.
لقد واجه المشروع منذ البداية مشاكل عدة لعل ابرزها المشاكل المالية والمتمثلة في عجز الدولة العثمانية عن تغطية نفقات تنفيذ المشروع، إلى جانب المشاكل الأسياسية المتمثلة في انقلاب الاتحاديين عام 1908م ومحاولات بريطانيا للنفاذ في المشروع والإيقاع بين الاتحاديين وألمانيا، إذ دعت بريطانيا إلى تبني فكرة تدويل الخط – أي جعله دوليا – من ناحية الإنشاء والإشراف على تشغيل المشروع، وقامت بمناورات سياسية جعلت المشروع وآلية تنفيذه واحدا من أبرز عناصر الخلاف بين الدول العظمى آنذاك وتحديدا الخلافات الألمانية – البريطانية ولم يتم تسوية الخلافات إلا قبيل اندلاع الحرب العالمية الأولى.
أما المشروع نفسه فقد وضع الحجر الأساس له في 27 تموز 1912م حيث وصلت اول شحنة من مواد إنشاء الخط من ألمانيا، كما أنشأت أرصفة مؤقتة لتسهيل تفريغ المواد المشحونة لإنشاء الخط الحديدي.
أنجزت المرحلة الأولى من الخط المقترح في أيار 1914م بطول (615) كم، وفي الأول من حزيران1914م تحرك أول قطار من بغداد إلى سميكة (الدجيل)، وحتى إعلان الحرب العالمية الأولى انجز من هذا الخط حوالي (120) كم بين بغداد وسامراء وبنظام عريض على غرار القياسات الأوربية، ورافق بناء هذا الخط إقامة العديد من المحطات، ويلحظ أن الألمان حصروا دوائرهم والمضخات وأحواض المياه ومحلات سكن الموظفين والمرافق الخدمية في محطة الكاظمية، التاجي، المشاهدة، الدجيل وبمسافة (20)كم بين محطة وأخرى.
ومن الجدير بالذكر إن قائد القوات البريطانية التي احتلت العراق أشاد بها، حيث قال: “أنها متينة ومشيدة بالإسمنت على غرار الثكنات الدفاعية من ذوات الطابقين وفي كل محطة بئر ومضخة”.