بدر شاكر السياب، أحد أهم الشعراء العراقيين والعرب في القرن العشرين، والذي يتصدر طليعة مؤسسي الشعر الحر في الوطن العربي رفقة نازك الملائكة. وتعد قصيدة السياب “هل كان حبا” أول قصيدة له في كتابة الشعر الحر. قريحة الشاعر وموهبته الشعرية قد تفجرتا منذ الصغر في قريته جيكور الصغيرة -الواقعة بالقرب من أبي الخصيب إلى جنوب شرقي البصرة- حين كان لا يتجاوز الثانية عشرة، في مدرسته الابتدائية في أبي الخصيب، وهي المحاولات التي قال عنها بدر فيما بعد أنها كانت صحيحة من ناحية الوزن ولكنها كانت مليئة بالأخطاء النحوية.
ولد بدر شاكر السياب في عام 1926، لأب كان يعمل في مساعدة والده في رعاية النخيل. ولد الشاعر في فترة حرجة من تاريخ العراق المعاصر الذي كان تحت سلطة الاحتلال الإنجليزي، وألقت الظروف السياسية بظلالها على كاهل بدر في مختلف مراحل حياته، فأثقلتهُ، وعانى ما عاناه سواء من السجن أو الرفض من العمل والطرد أو ملاحقة المخبرين أو الهرب إلى منفى اختياري في الكويت خشية الاعتقال، وكانت مادة دسمة لكثير من قصائده التي دوّن بها هذه الأحداث.
“ بعد أن أنهى بدر الدراسة الابتدائية انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار حيث سكن مع جدته لأمه، وفي عام 1941 بدأ شاكر الانتظام بكتابة الشعر، الذي التزم فيه بكتابة الشعر العروضي “ |
توفيت والدته عام 1932 ولم يتجاوز السادسة بعد، لتبدأ محنته العاطفية التي بقيت ملتهبة الجراح حتى بعد زواجه من إقبال، وبقي جريح الحب باحثا عمن تبادله الحب، فرغم علاقاته التي تنوعت ما بين حب المراهقة مع الراعية هالة، إلى لبيبة التي كبرته بسبع سنوات في دار المعلمين إلى الشاعرة لميعة عباس التي كانت تصغره بثلاث سنوات ودرست معه في دار المعلمين لكن بمرحلة مختلفة وقسم آخر، وليلى الممرضة والصحفية البلجيكية لوك التي كانت مهتمة بترجمة قصائده إلى الفرنسية وقد فعلت ذلك، إلا أنه لم يجد من تبادله هذا الحب الذي كان يحلم به أو يستحقه، الأمر الذي يعود لأسباب متعددة منها ما يخص هيئة السياب وشكله وهو ما أثر فيه نفسيا إذ كان يرى نفسه دميما، ومنها ما يعود إلى أسباب مادية وطبقية، وهو الذي عانى ما عاناه من الفاقة وقلة ذات اليد والشح أو أن مشاعر الحب كانت استجدائية كما في حالة لوك التي اعترفت له أنها تحب شخصا آخر.
بعد أن أنهى بدر الدراسة الابتدائية انتقل إلى الدراسة الثانوية في قطاع العشّار حيث سكن مع جدته لأمه، وفي عام 1941 بدأ شاكر الانتظام بكتابة الشعر، الذي التزم فيه بكتابة الشعر العروضي ومواضيعه الكلاسيكية وهو الذي تأثر بالشاعر أبي تمام، قبل أن يشهد شعره الثورة على الكلاسيكية واللحاق بالرومانطيقية والحداثة فيما بعد. في عام 1943 التحق بدر بدار المعلمين في بغداد، واختار قسم اللغة العربية، وسكن القسم الداخلي، وتعد هذه المرحلة التي بزغ فيها نجم السياب الشعري، وكذلك أظهرت ميول السياب الشيوعية المعادية للرأسمالية، وفي هذا المعهد وقع في شراك فتاة من طبقة الغنية وأحبها بدر إلا أنها كان يبدو أنها غير جادة في علاقتها ببدر بسبب فرق المكانة الاجتماعية بينهما إذ يقول:
بيني وبين الحب قفر بعيد
من نعمة المال وجاه الأبِ
يا آهتي كفّي … ومت يا نشيد
شتان بين الطين والكوكبِ
بالرغم من نتائجه الجيدة في الموسم الدراسي 1944-1945 إلا أن السياب ترك قسم اللغة العربية متحولا إلى قسم اللغة الإنجليزية اعتقادا منه أن قسم اللغة العربية لن يقدم له أكثر مما قدم وأن عليه البحث عن تجارب ومصادر جديدة ينهل منها، وكان له ما أراد فتعرف على الشعراء الإنجليز الرومانطيقين أمثال ورودزورث وكيتس، وتعرف على ت. س. إليوت الذي تأثر به وقصيدته الأرض اليباب، وساعدته الدراسة في قسم اللغة الإنجليزية العمل في الترجمة سواء في الصحف أو المجلات الأدبية.
استمرت الأوضاع السياسية في العراق تلقي بظلالها على حياة السياب، فبعد أن هددت المعارضة مقاطعة الانتخابات في عام 1952، واجتاحت المظاهرات العاصمة الأمر الذي أدى لتدخل الجيش لإعادة الأمن، وكان بدر ضمن المشاركين في المظاهرات، التي لحقتها حملة اعتقالات، اعتقل فيها عدد من أصدقائه فخاف بدر أن يتم اعتقاله أيضا فهرب إلى البصرة. وضع بدر لم يستقر بعد أن قضى بعض الوقت في المحمّرة وسافر بجواز سفر إيراني الذي ساعده بالحصول عليه علاقاته بحزب توده الشيوعي الإيراني إلى الكويت. وكان وضعه في الكويت سيئا، حيث كان يستحوذ عليه الحنين إلى العراق، وما أصابه من فاقة وانعدام المال، الحال الذي صوره أشجى تصويرا في قصيدته “غريب على الخليج”. عاد إلى العراق بعد سنة من التشرد وحياة لاجئ صعبة.
في عام 1955 تزوج بدر امرأة قريبة له هي إقبال طه العبد الجليل، هذا الزواج الذي لم يحمل كثيرا مما توقعه وتمناه بدر في حياته، إذ ينصح بعد سنوات من زواجه صديقه مؤيد العبد الواحد قائلا: “يا مؤيد، نصيحتي إليك إذا ما أردت الإقدام على الزواج أن تكون رفيقة مستقبلك ذات ميل للأدب على الأقل، لكي تفهم مشاعرك، وتشاركك إحساساتك. وإن لم تكن كذلك فحاول أن تحبب لها الدخول إلى هذا العالم الجميل، وكن لها الباب حتى تدخل إليه، حاول وحاول يا مؤيد ولا ترتكب الخطأ الذي وقعت فيه، إنها لم تفهمني ولم تحاول أن تشاركني إحساساتي ومشاعري، إنها تعيش في عالم غير العالم الذي أعيش فيه، لأنها تجهل ما هو الإنسان البائس الذي يحرق نفسه من أجل الغاية التي يطمح إلى تحقيقها هذا الإنسان الذي يسمونه الشاعر…”.
إلا أن السياب لم يكن يكره زوجته رغم الفارق الفكري بينهما وانعزال عالميهما عن بعض إذ يذكر زوجته إقبال في قصائده الأخيرة ولا سيما قصيدته “وصية”. ورزق منها بغيداء وغيلان وآلاء. بعد أشهر من زواجه أصدر بدر ترجماته الشعرية لمجموعة من الشعراء من لغات مختلفة عن اللغة الإنجليزية في كتاب بعنوان “قصائد مختارة من الشعر العالمي الحديث”.
“ سافر بدر إلى الكويت للمرة الثانية في تموز عام 1964 لكن مريضا يرجو الشفاء من مرض وصل لمرحلة خطرة جدا أعجزته عن الحركة لا لاجئا هاربا من الحكومة “ |
ظروف بدر المادية لم تتحسن كثيرا، إذ اشتغل موظفا في مديرية الاستيراد والتصدير العامة، وكان راتبه ابتداءً من تشرين الأول ١٩٥٦، قدره اثنان وعشرون دينارا عراقيا ونصف، وهو راتب لا يكفيه وهو المتزوج ولديه طفلة، وينتظر مولودا جديدا، إضافة إلى إعالة والده الذي كان يلاحقه طلبا للمساعدة. وخشية الفقر والجوع الذي عاناهما وضاق مرارتهما وخوفا على أسرته من مصير يخشاه، والظروف السياسية التي كانت تسمح للصحف الحكومية فقط العمل نشر أعدادها، اضطر بدر إلى العمل إضافيا في جريدة “الشعب” عام ١٩٥٧، وهي الجريدة المعروفة بتبعيتها للحكومة إلا أنه بقي بعيدا عما يوقعه في تناقض مع آراءه السياسية المعادية لتبعية الحكومة العراقية للغرب.
عمل بدر في كتابة مقالات في جريدة الحرية تحت عنوان “كنت شيوعا” واللاتي تم نشرهن في منتصف آب/ أغسطس عام 1959. كتب في هذه المقالات تجاربه مع الشيوعية عامدا إلى تضخيمها منفرا منها. لم يتوقف بدر عن كتابة الشعر في كل المرحلة السابقة، بل كانت مرحلة فيّاضة بالشعر. وفاز ديوانه “أنشودة المطر” بمسابقة شعرية أقامتها مجلة “شعر” والذي نُشر في المجلة في وقت لاحق.
المرحلة الأخيرة من حياته لا سيما السنوات الثلاث الأخيرة كانت من المراحل العصيبة والتعيسة لبدر إذ كانت أعراض الشلل بادية عليه إذ أصبحت حركته صعبة، وبعد عدة فحوصات في بيروت ولندن وباريس أثبتت أن لديه مرض فسادي في جهازه العصبي، ولم تنجح المحاولات المتعددة لشفائه، وزامن هذا الوضع الصحي السيئ والذي يتردّى يوما بعد آخر مشاكل مادية، وتفكيره بزوجته وأبنائه الثلاث (غيداء وغيلان وآلاء) مع الفاقة وقلة المال، ووصل الحال إلى أقصى درجات السوء في نيسان سنة 1964 إذ انتهت المدة المسموح بها من الإجازات المرضية والإجازات العادية وكذلك الإجازات المرضية بنصف راتب التي يسمح بها قانون عمله في مصلحة الموانئ العراقية في البصرة. وبدأت بعدها إجازة من مئة وثمانين يوما بدون راتب.
في هذه الفترة وبترتيب من صديقه الشاعر الكويتي علي السبتي الذي كان له ما أراد، وسافر بدر إلى الكويت للمرة الثانية في تموز عام 1964 لكن مريضا يرجو الشفاء من مرض وصل لمرحلة خطرة جدا أعجزته عن الحركة لا لاجئا هاربا من الحكومة. وبقي السياب في المشفى حتى وفاته في الرابع والعشرين من كانون الأول عام 1964، حيث أبرق علي السبتي إلى أسرته يبلغهم بوفاته، ونقل جثمانه إلى البصرة، وبعد الصلاة عليه دفن في مقبرة الحسن البصري.