لفهم جذور النشاط الفني السينمائي وتطوره في العراق، وخاصة في مدينة بغداد، يجب العودة إلى الماضي. تمتد جذور هذا النشاط الإبداعي الفني كتعبير عن الواقع الاجتماعي، حيث كانت الحكايات الشعبية الوسيلة الرئيسية للتسلية في تلك الفترة. تغيّر هذا المنظر عندما دخل الراديو على الساحة لينافس ويتحدى تأثير الحكايات، ومع وصول السينما، بدأت في تسلق قمم الإبداع والشعبية لتحكي قصصاً جديدة وترسم لوحات حية للحياة في تلك الفترة.
في زمن كانت المقاهي تُعتبر مكانًا لهدر الوقت، شهد بعضها تنظيم حفلات غنائية لعشاق المقام والقراء، ونظرًا لانتشار الأمية في المجتمع، أصبحت القصص وسيلة للتسلية. كانت بعض المقاهي القديمة تعقد جلسات رواية في أمسيات معينة، حيث يروي القصّاص “القصخون” فصولًا من قصص المغامرات الخيالية والبطولات الوهمية.
فكان أهل بغداد يتجمعون بعد صلاة العشاء في هذه المقاهي، التي كانت تتوزع في أماكن متعددة من المدينة، مثل مقاهي محلات الجوبة والفضل، وباب الشيخ والدهانة في الرصافة، ومقاهي محلات الفحامة وسوق العجمي والست نفيسة والشيخ صندل في الكرخ. لهذا كان للقصّاصين “القصخون” مكانة مرموقة في هذه المقاهي، حيث كانوا يقدمون للحاضرين فصولًا من القصص والأساطير، وكانوا يجذبون الرواد بمهارتهم في السرد. كان رواد المقاهي يحرصون بشدة على حضور جلسات الرواية ومتابعة فصولها، في حين كان أصحاب المقاهي يتعاقدون مع القصّاصين لزيادة جاذبية مقاهيهم.
في بداية القرن العشرين، كان البغداديون يشاهدون مشهدًا مميزًا في مقهى حوري بمنطقة خان لاوند، حيث كان القصّاص “ملا فرج” يظهر وعلى رأسه جراوية، يحمل سيفًا خشبيًا. كان له مثيل آخر في القصّاص “نصيف العزاوي”. كان لشباب بغداد اهتمامًا خاصًا بالاستماع إلى قصص المعارك والبطولات التي ينشدها القصّاصون، حيث يتناولون أخبار المعارك وصور البطولات لأبي زيد الهلالي وعنترة بن شداد، وغيرهم من أبطال الملاحم.
في ليالي شهر رمضان، كان مقهى عزاوي في محلة الميدان يستضيف عروض “خيال الظل”، بينما كان مقهى سبع، الواقع بالقرب من مقهى عزاوي، يضم ملعب “القرقوز”. وكان مقهى التبانة في محلة الفضل يُقدم عروضًا تمثيلية هزلية ليلية، مليئة بالنكات الفكاهية لجمهوره.
مع التقدم العلمي والتقني الذي شهدته بغداد، حدثت تغييرات في الحياة الاجتماعية. وقد ودعت مقاهي بغداد مجال جلسات القصخون، حيث استُبدلت بأجهزة الكرامفون (الحاكي)، وبعد ذلك بأجهزة الراديو. ظهر الحاكي وكان بعض أصحاب المقاهي يُضعونه في مكان بارز ويقدمون عدة أسطوانات للجلوس للاستماع إلى المقامات العراقية والأغاني. في منتصف الثلاثينيات، استبدلت بعض مقاهي بغداد الراديو بجهاز الحاكي، وأصبحت هذه الأجهزة ضرورية لتجهيز المقاهي، وتزايدت ظاهرة قراءة الصحف اليومية في المقاهي في مدينة بغداد.
أشار عبدالكريم العلاف إلى تراجع الملاهي في بغداد مع تنامي الملل من الرقص الخليع والأغاني الرخيصة، مما دفع أصحاب الملاهي إلى إدخال جوق تمثيلي هزلي إلى عروضهم في سعي لتحفيز الاهتمام وتفادي الخسائر المالية. هذا الجوق الذي أُطلق عليه اسم “جوق الإخباري” كان يؤدي عروضًا في أوقات متأخرة من الليل وكان يعتبر إضافة جديدة لعروض الملاهي.
كان جوق الإخباري يأخذ أفكاره من الفصول الهزلية التي كان يقدمها الهزلي البغدادي المعروف إبن الحجامة ورفيقه الفكاهي منصور في بعض مقاهي بغداد في بداية القرن العشرين. ومع أنه كان يحمل طابعًا هزليًا، إلا أنه كان مزينًا بملابس ملونة وكان يظهر بسيوف وخناجر، وكان النساء يشاركن في العروض. البغدادي الفكاهي كان يستمتع بكل ما يثري رونق العرض.
من بين الممثلين المعروفين في هذا النوع كان جعفر لقلق زادة، الذي كان ليس فقط ممثلاً بارعًا ولكن أيضًا مؤلفًا ومدربًا. ورغم أن هناك عدة أجواء للتمثيل الخلاعي، إلا أن جوق (سليمة مراد) كانت لها حصة كبيرة في هذا النوع من التمثيل، وقد وُصِفَ هذا النوع بأنه يشكل تهديدًا للحشمة.
قبل ظهور الصور المتحركة الصامتة على شاشات السينما، كان البغداديون يشغلون أوقات فراغهم بمشاهدة الصور المكبرة. كانت أيامًا تمهد لظهور تقنية السينما التوكراف، حيث شهد أهالي بغداد لأول مرة عرضًا سينمائيًا توكرافيًا في ليلة الأحد 26 يوليو 1909 في دار الشفاء بالجانب الغربي من بغداد. أدهشت الجماهير التي حضرت هذا العرض من العروض المذهلة والألعاب الخيالية.
تبين أن بغداد كانت في المقدمة باستضافتها لأول عرض سينمائي في عام 1909، قبل العواصم المجاورة. تفاعل بعض تجار تلك الحقبة مع هذا الفن الجديد، فقاموا بتخصيص مكان مناسب عام في بغداد لعروض السينما. تم بناء أول دار سينما في عام 1911 في وسط البستان الملاصق للعبخانة، وكانت هذه المنطقة في قلب شارع الرشيد في بغداد.
كان حفل العرض السينمائي الأول في 5 سبتمبر 1911، وأثار هذا الحدث الاستثنائي صدى واسعًا في الأوساط الاجتماعية والثقافية. تضمن العرض الأول الذي حضره حاكم العثماني (جمال باشا) ثمانية أفلام قصيرة، وبدأت منذ ذلك الحين رحلة السينما في بغداد.
في سبتمبر ـ 1911، أشارت الجريدة البغدادية “صدى بابل” إلى بداية العروض التوغرافية في بغداد، حيث أعلنت أن أول تمثيل سينمائي سيبدأ في البستان الملاصق للعبخانة. كانت هذه التجربة السينمائية الأولى تأتي بشكل لطيف ومبهج، وكانت الأفلام المعروضة تحمل عناوين مثل “صيد الفهد” و”الرجل الصناعي” و”بحر هائج” وغيرها.
هذا الإعلان، الذي نُشر في الصحافة العراقية، كان أول خطوة نحو تقديم السينما في بغداد، حيث كانت العروض تُقدم في دار العرض بمقابل تذاكر. حضر هذا العرض الافتتاحي أكثر من 200 شخص، من موظفي الحكومة ووجهاء المدينة، وتميز الحدث بعزف الموسيقى العسكرية.
تمت العروض في مكان يُعرف فيما بعد باسم “سينما بلوكي”، اسم يرتبط بتاجر مسيحي كان معروفًا في العراق والذي كان يستورد المكائن. بذلك، أُطلقت “سينما بلوكي” لتكون أول دار سينما تُفتتح في مدينة بغداد عام 1911.
لم يقتصر عرض الصور المتحركة على البستان الملاصق للعبخانة، بل كان هناك مكان آخر يستضيف عروض السينما. في المسرح المركزي بحديقة الأهالي، خصصت سينما للأهالي حيث عُرضت العديد من الأفلام القصيرة، بما في ذلك “جريدة باتة” و”العاب بدنية” و”صورتان هزليتان” و”طعام الملوك”، بالإضافة إلى شريط يتألف من خمسة أجزاء باسم “مناظر الحرب”.
كانت عروض السينما توغراف عادةً ما تُقدم في المناسبات الهامة والاحتفالات العامة. تمت عروض في التياترو الجديد بالبساتين العمومية خلال احتفالات يوم الإمبراطورية في 24 مايو 1918. إلى جانب العروض المسرحية التي قدمها الممثل البريطاني بول فريمن، عُرض شريط سينمائي بعنوان “معارك هذه الحرب” يسجل مآسي الحرب العالمية الأولى. كما تم عرض صور جديدة التقطت في شوارع وأسواق بغداد.