المدرسة المستنصرية – أول جامعة إسلامية في العصور الوسطى

المدرسة المستنصرية – أول جامعة إسلامية في العصور الوسطى

تقع المدرسة المستنصرية على الضفة اليسرى لنهر دجلة بمحاذاة جسر الشهداء، وهي مقابلة لسوق السراي وشارع المتنبي، وملاصقة لسوق القبلانية وقريبة من سوق الشورجة والسوق العربي أشهر مناطق التبضع بالجملة في جانب الرصافة من العاصمة بغداد.

سُميت المدرسة المستنصرية على اسم بانيها الخليفة المستنصر بالله (حكم الدولة العباسية حتى عام 640 هـ/ 1242م) والذي جلب لها :”المهندسين الماهرين وكبار الصناع الفنانين، فخططوا التصاميم وقدروا المقاييس، وشرع البناؤون في البناء سنة 625 للهجرة ووضع الخليفة حجرها الأساس”، كما يذكر المؤرخ ناجي معروف في كتابه الذي حمل اسم “المدرسة المستنصرية”.

وعلى عكس باقي المدارس الفقهية، خُصصت المستنصرية لتدريس الفقه على المذاهب السنية الأربعة بالإضافة إلى الطب والفلك والرياضيات والعلوم الفقهية، كما كانت مركزاً اجتماعيا تقام فيه الدعوات والولائم الفاخرة للملوك والأمراء. وكانت بمثابة مسجد جامع، فقد أستُعمل صحنها الواسع لأداء الصلاة أيام الجمع والعيد ولم يكن يخطب فيها إلا هاشمي عباسي تنفيذاً لاشتراط الخليفة.

 

بناية المدرسة

 

شُيدت المدرسة المستنصرية على مساحة 4863 متراً مربعاً، تتوسطها ساحة مكشوفة (صحن)، ذات شكل مستطيل منتظم تزيد عن ثلث المساحة الكلية للبناية.

ويذكر الباحث أحمد إبراهيم في دراسته المعنونة “العناصر المعمارية والزخرفية للمدرسة المستنصرية في بغداد” أن المدرسة :”بُنيت بآجر أصفر اللون متنوع الأشكال والأحجام”، تم تصميمه “ليناسب المكان الموجودة فيه والغرض من استعماله”.

تحتوي المدرسة على “حجرات وغرف كثيرة بنيت في طابقين تحيط بالصحن من جميع الجهات، صممت أماكنها بين الإيوانين والمدخل وبيت الصلاة”، متوزعة على “أربعين حجرة في الطابق الأول (قاعات الدراسة)، وفي الثاني 36 غرفة (لإقامة الطلاب الأجانب)”.

يتم الوصول إلى الطابق الثاني “عبر ستة سلالم يقع أثنان منها على طرفي المدخل، ومثلهما على طرفي المسجد، ويقع اثنان على الجهتين اليمنى واليسرى من الإيوان الشمالي”. وبحسب الدراسة، فإن “غرف الطابق الثاني أصغر حجماً من الأول لأنه يحتوي على ممر يتقدم الغرف يتم بواسطته الوصول إلى أبواب تلك الغرف، وقوام هذا الممر من دعائم تحصر بينها عقود مدببة تطل جميعها على الصحن، ولا تحتوي على نوافذ سوى تلك التي تطل على النهر”.

ويوجد في إحدى حجرات الدراسة باب صغير يؤدي إلى سلم من بضع درجات ينتهي بشباك يطل على إحدى القاعات يقول عنه الباحث إنه قد يكون الشباك “الذي أورده المؤرخون في كتبهم وأشاروا إلى أن الخليفة كان يجلس فيه لسماع الدروس أحياناً”.

 

أوقاف الخليفة

 

كان اهتمام الخليفة بالمدرسة المستنصرية كبيراً. بدا ذلك واضحاً، كما ذكر المؤرخ ناجي معروف، من خلال حفل الافتتاح الضخم الذي جرى العام 630 هـ والذي “حضره الخليفة والعلماء والأمراء وأعيان القوم ووجوههم. وحضر إلى المدرسة نائب الوزارة، وسائر الولاة والحجاب والقضاة، والمدرسون والفقهاء ومشايخ الربط”.

وأعد الخليفة المدرسة لتكون مصدر راحة للأساتذة والطلاب كما يشير معروف في كتابه إذ يقول :”كان في المدرسة حمام خاص بالطلاب ودار للوضوء وبيمارستان (مستشفى) ومطبخ وغرف كثيرة أُعدت لسكنى الطلبة ومخزن لخزن الطعام والشراب والأدوية ومزملة للماء البارد العذب”. ويضيف معروف أن الخليفة “رتب لها البوابين والفراشين والخدم والطباخين وغيرهم”.

وتدبر الخليفة الأمور المالية للمدرسة حيث “أوقف عليها أوقافاً كثيرة منها الدور والخانات والقرى والرباع. وقيل أن قيمة ما وقف عليها بلغ ألف ألف دينار وبلغ ارتفاع وقوفها في السنة نيفاً وسبعين ألف مثقال”. ويوضح معروف أن هذه الأموال :”كانت تصرف على خزانة الكتب وعلى المدرسين والطلاب الذين بلغ عددهم ثلاثة آلاف فقيه، لكل استاذ 75 طالباً، رتبت لهم المساكن المفروشة بالسجاد النفيس وأنواع المأكل والمطاعم ووسائل الراحة ما يلزم الكتابة والدرس”.

وخصص الخليفة رواتب شهرية حتى يتفرغ الجميع للعلم فكل مدرس كان يحصل على 12 ديناراً ذهباً، وكل معيد له 3 دنانير، أما خازن الكتب فعشرة دنانير، وللمشرف ثلاثة دنانير، كما كان مناول الكتب يحصل على دينارين، فيما يحصل الطالب على دينار ذهبي واحد شهرياً.

وضمت المدرسة المستنصرية آنذاك مكتبة كبيرة سميت بـ”دار الكتب”. تجاوز عدد كتبها 400 ألف كتاب من المجلدات والمخطوطات.

 

مميزات المدرسة وعمارتها

 

يتحدث الباحث أحمد ابراهيم في بحثه عن المدرسة المستنصرية عن مميزات معمارية خاصة تم وضعها خلال مرحلة تصميم البناء حيث يقول: “يمكننا القول بأن ضخامة الجدران وعدم فتح نوافذ فيها فيما عدا الجدار المطل على نهر دجلة، إنما القصد به عدم وصول الضوضاء الخارجية إلى داخل المدرسة ولضمان أكبر قسط من الراحة والسكون والهدوء للمقيمين فيها وتقليل درجات الحرارة في فصل الصيف”.

وأخذ البناؤون بنظر الاعتبار توفير أكبر قدر ممكن من الإضاءة الطبيعية خلال النهار “عن طريق الفتحات النافذة في أعلى السقوف وكذلك أبواب الغرف والقاعات”. حيث يكون من شأن “الهواء الساكن أعلى السقف والهواء الداخل من أبواب الغرف والقاعات المطلة على الصحن الذي يحتوي نافورة وبعض الأشجار أن تجعل الهواء الداخل إلى الغرف باردا ولطيفا”.

ويرى الداخل إلى المدرسة من بوابتها إيوانين، يقع أحدهما على الجهة الشمالية الغربية، والآخر في الجهة الجنوبية الشرقية. يُرجع الباحث بناءها بهذه الطريقة “إلى محاولة المعمار معالجة مشكلة المناخ القاري المتغير صيفاً وشتاءً. فالإيوان الشمالي الغربي يعالج برد الشتاء لتعرضه لأشعة الشمس، في حين يكون الإيوان الجنوبي الشرقي ملائم لفصل الصيف لأنه يتفادى أشعة شمس العصر العالية”.

وتزخر بناية المدرسة المستنصرية بالزخارف الآجرية التي كانت شائعة في العصر العباسي المصنوعة من طين ترسبات نهر دجلة في بغداد. وتنقسم إلى زخارف هندسية تتكون من نجوم ومضلعات متنوعة تتضمن اطارات بارزة والزخارف النباتية التوريق العربي (الارابيسك)، كما استخدمت الزخارف الكتابية بالخط الكوفي وخط الثلث والتي استخدمت للزخرفة و للتعريف بالبناء.

 

النكبات التي حلت بالمستنصرية

 

يتحدث المؤرخ كوركيس عواد في كتابه “المدرسة المستنصرية  في بغداد” عن حوادث ونكبات عديدة وقعت للمدرسة، “بدءاً من العام 635 للهجرة حين وقعت صاعقة على رواقها فشعثت منه موضعاً… ثم هددها الغرق مرتين في الأعوام 646 و654 هـ” .

أما النكبة الأكبر فكانت “حين دخل التتار إلى بغداد العام 656 هـ، فقُتل علماؤها وبُدد شمل طلابها وأُغِرقت كتبها في دجلة، وتوقفت الدراسة فيها لبعض الوقت ثم استمرت لنحو قرن ونصف القرن”.

وتم تعطيل الدراسة بها وبغيرها من مدارس بغداد “بسبب تدمير تيمورلنك لبغداد مرتين، الأولى سنة (795هـ / 1392م)، والأخرى في سنة (803هـ / 1400م). حيث قضى تيمورلنك على مدارس بغداد، ونكّل بعلمائها، وأخذ معه إلى سمرقند كثيراً من الأدباء والمهندسين والمعماريين”. ويبين المؤرخ أن الدراسة “بقيت متوقفة في المدرسة لنحو قرنين حتى افتتحت سنة (998هـ /1589م)، ولكن لم تدم بها طويلاً فعادت وأغلقت أبوابها سنة (1048هـ / 1638م)”.

وذكر المؤرخ أن المدرسة بعد توقفها اتخذت لأغراض متعددة أخرى غير الدراسة بدءا من محل للوزن والقبانة، ثم جرى تحويلها إلى خان خلال ولاية سعيد سليمان باشا (1813م)، وجعله وقفاً على مدرسته التي تعرف اليوم بالمدرسة السليمانية المتصلة بجامع النعمانية.

وبعد أن بقيت المستنصرية خاناً لفترة طويلة من الزمن، “استأجرها المجلس العسكري وأسكن فيها كتيبة من جنود الموصل ومن ذلك العهد سميت خان المواصلة، وأقام فيها الجند حقبة ثم غادروها وتركوا فيها بعض عتادهم ومعداتهم. وكانت دائرة الوقف تتقاضى الأجرة من دائرة التجنيد” بحسب المؤرخ.

 

نزاع على الملكية

 

بعد أن أهملت دائرة الأوقاف بناية المدرسة المستنصرية، قامت دائرة التجنيد ببيعها عام 1895 لدائرة الرسومات فأصبحت مخزناً لبضائع دائرة المكوس.

ويذكر المؤرخ كوركيس عواد أن دائرة الأوقاف وبعد 18 عاما “قامت برفع دعوى قضائية للمطالبة بالمستنصرية… فحكم القاضي بإعادتها إلى الأوقاف بعد أخذ شهادات خمسين رجلاً، وأرسل الحكم إلى الأستانة ليصادقه شيخ الاسلام، لكن بعض الأشخاص أخفوه فنسي الموضوع”.

“وفي عام 1921 زار الملك فيصل الأول المدرسة المستنصرية، فأقيم له حفل ألقى فيها جماعة من الشعراء القصائد وطالبوه بإعادة إحياء المدرسة”، فيما بقي موضوع عائدية المستنصرية “مسكوتاً عنه وبقيت دائرة للجمارك”. وبعد أربع سنوات عادت وزارة الأوقاف للمطالبة بالمدرسة وهذه المرة استمرت القضية حتى العام 1940 حين تمكنت مديرية الآثار من استعادة ملكيتها بعد أن تم تخريب أجزاء كبيرة منها.

تم تأهيل المدرسة المستنصرية تدريجياً خلال الأعوام 1960 و1973. أما أقوى أعمال الترميم فتمت بعد العام 2003 لتصل اليوم إلى قائمة الانتظار في لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) للتراث الإنساني.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *