في أواسط يونيو عام 1985 ظهر الفنان التشكيلي خالد جبر لأول مرة على شاشة تلفزيون العراق، ليقدم أول حلقة من برنامج الأطفال التعليمي الأكثر شهرة “المرسم الصغير”، التي فاجأ نجاحها المبهر حتى الفنان نفسه، ليصل عدد حلقات البرنامج 2000، تم بثها على مدى 35 عاماً، أسست لأجيال محبة للألوان وعاشقة للحياة.
يصف مُدرس التربية الفنية عدي علي، الفنان جبر، بأنه “معلمنا الأول الذي تمكن من محاورة عقل الطفل وتدريبه على أول خطوة له في عالم الرسم والخط العربي. أخذ بأيدينا وسرنا معه في الطريق إلى عالم الألوان والجمال”.
يبين علي الذي حصل على شهادة الماجستير في التربية الفنية، لـ”ارفع صوتك”: “جبر ألهم أجيالا بأكملها كانت تتلهف بانتظار حلقات برنامجه، لنقع أولاً في حب عالم الرسم وليتحول لاحقاً من هواية طفولة إلى دراسة في معهد الفنون الجميلة ثم مهنة خلال مراحلنا العمرية اللاحقة، فقد ألهمني أن أكون مُدرساً للرسم وأشعر أنني أكمل اليوم ما بدأه هذا الفنان المتميز”.
ولد جبر لأب ينتمي إلى السلك العسكري في مدينة الحبانية بمحافظة الأنبار عام 1954، وبدأت موهبته الفطرية في الرسم بالظهور في سن مبكرة، مستخدماً أجزاء الطابوق الأصفر والجص الأبيض وبقايا البطاريات المستعملة للرسم على أسفلت الشارع والرصيف المحاذي لمنزلهم.
جذب الرسام الطفل أنظار المارة، فقد كان يقضي ساعات طويلة في رسم أشكال غريبة أو حيوانات وأشجار وسيارات وبيوت على امتداد ذلك الشارع.
وبفضل ذلك، حصل على تشجيع كبير من المارة وسكان البيوت المجاورة. وكان المدرب الراحل عمو بابا في شبابه أحد أكثر المؤثرين والمشجعين له، وكان كلما مر بجبر يبتسم له ويقول بود كبير “ارسم حبيبي خلودي”.
هذا الاستغراق بالرسم في الشارع قاطعه حادث كاد أن يودي بحياة جبر، حين اصطدم به سهواً رجل على دراجة، لُينقل إلى المستشفى وهو مصاب بجروح نازفة في الرأس والساق وكسر في اليد.
حينها، كان جبر الطفل يخشى من ردة فعل والده العسكري المتزمت، فهو كان يرسم في الشارع دون علم والده خلال التحاقه بواجبه في محافظة أخرى، وما حصل بعدها أن منعه أبوه من الخروج إلى الشارع، واشترى له سبورة وطباشير ملونة، ليترك جمهور الشارع الذي أطلق عليه أول لقب فني في حياته وهو “الرسام الصغير الأسمر”.
سرعان ما دخل خالد جبر الطفل إلى المدرسة الابتدائية لتظهر موهبته في الرسم من خلال رسمه المميز للحروف والرسوم التوضيحية في القراءة الخلدونية، ليصبح طفلاً ذا شعبية كبيرة ليس في مدرسته فحسب، بل في العراق بأكمله.
حصل ذلك حين قام برسم لوحات لرئيس الوزراء الراحل عبد الكريم قاسم، اشترك على أثرها بمعرض فني للطفولة آنذاك عُرضت فيه لوحاته تلك، ووصلت رسوماته لمعرض في وزارة التربية رعاه عبد الكريم قاسم نفسه عام 1962 ليلتقيه ويتحدث معه.
أثر ذلك اللقاء الذي انتهى بتشجيع كبير من رئيس الوزراء للطفل الذي توقع له أن يكون في المستقبل “فناناً للشعب”، مع تكريم مادي بمبلغ دينار واحد أخرجه الزعيم من جيبه الخاص مع صورة موقعه منه لا تزال حتى الآن موجودة لدى جبر.
أصبحت الطريق واضحة أمام الفتى، ليخطو بثقة إلى معهد الفنون الجميلة. وأثناء دراسته، تأثر بفنانين عالميين وعراقيين منهم روبنز ورامبرانت وجواد سليم، كما درس باستفاضة لوحات المستشرقين والتخطيط والإنشاء والنسبة الذهبية والواقعية، وأنجز العديد من المعارض الفنية خلال تلك الفترة.
ولتفوقه في المعهد، أصبح جبر مدرساً فيه، وبقي كذلك عشرة أعوام، وتخصص بمادة الألوان والبورتريه ورسم لوحاته وفق المدرسة التعبيرية.
كما اتجه إلى الصحافة المتخصصة ليكتب عن الفن والرسم ويؤلف أكثر من عشرة كتب في مجال تعليم الرسم.
أجواء الصحافة ولقاءاته مع عدد كبير من الإعلاميين خلال تلك الفترة بلورت لديه فكرة مشروع جديد حقق نجاحاً أكثر من المتوقع وخلد اسمه في تاريخ الفن التشكيلي العراقي.
نشأت فكرة “المرسم الصغير” لدى جبر أثناء تردده على مبنى الإذاعة والتلفزيون العراقي لإجراء بعض المقابلات، حيث التقى مع المخرج الراحل طارق الحمداني الذي كان يحمل مسؤولية عدد من البرامج الموجهة إلى الأطفال، منها “دنيا العلوم” و”هيا بنا نلعب” و”قرقوز”.
اقترح جبر على المخرج فكرة برنامج موجه إلى الأطفال لتعليم الرسم يتم من خلاله تقديم رسوم وقصص خاصة بالطفل، وبالفعل تم تصوير حلقة تجريبية، ما إن عُرضت على الشاشة حتى بدأت الرسائل تنهال على القناة، تحمل رسومات لأطفال من مختلف محافظات العراق.
فاجأ نجاح الحلقة في أول أسبوع لها جميع العاملين، فتقرر الاستمرار في تصوير وعرض الحلقات ونجح في كسب الجمهور والعائلة العراقية وتحديداً الأطفال، واستمر البرنامج تفاعلياً فكان يستقبل الأطفال في الاستوديو أو يتم التصوير في الطبيعة بهدف الرسم، كما كان يتم تنظيم مسابقات في الهواء الطلق.
كل هذه الفعاليات التي كانت تأخذ طريقها إلى المتلقي العراقي الطفل حولت البرنامج إلى واحد من البرامج الأكثر مشاهدة والأطول عمراً، تصل إليه يومياً عشرات الرسائل التي تحمل رسومات أطفال، بعضها كان يجد طريقه للعرض على الشاشة.
حتى يومنا هذا تتابع العراقية زهرة راغب، برنامج “المرسم الصغير” برفقة أبنائها الثلاثة. تقول لـ”ارفع صوتك”: “أشعر بأني أستعيد طفولتي حين أشاهد مع أطفالي البرنامج على المواقع الإلكترونية، أعلمهم أصول الرسم والألوان عبره، كما كنت أفعل وأنا في مثل سنهم”.
“ذكرياتي لا تتعلق بالبرنامج فحسب، بل بجانب جميل من طفولتي حين كان والدي رحمه الله يشتري لي الألوان بكل أنواعها لأتمكن من متابعة البرنامج والرسم، وأنا أفعل الشيء نفسه اليوم مع أبنائي”، تضيف زهرة.
العراقية شيرين السعداوي، كانت تتابع وترسم مع البرنامج أيضاً. تتذكر: “كانت لهفتي كبيرة وكنت أحسد الأطفال الذين يظهرون في حلقات كثيرة مع خالد جبر للرسم”.
فيما بلغ حرص تبارك سامي على مواكبة البرنامج، أن تأخذ ألوانها وكراسة الرسم معها “حتى لو كانت في زيارة لأقاربها، لتشاهده هناك، خاصة أن البرنامج كان يُعرض يوم الجمعة”.
“إلى هذا الحد كنا متعلقين به في طفولتنا”، تؤكد تبارك لـ”ارفع صوتك”.
من جهته، يقول علي الجبوري، إن البرنامج “لم يعلمنا فقط حب الرسم، بل خلق منا جيلاً محباً للألوان وعاشقاً للحياة، ومع الأسف نجد هذا الدرس ملغياً في مدارسنا اليوم”.
ولم تكتف مروج الخزرجي بمتابعة البرنامج. توضح لـ”ارفع صوتك”: “كنا أنا وشقيقي قبل 25 عاماً نتابع البرنامج ونضع رسوماتنا في ظروف ونرسلها عبر البريد، وننتظر كل أسبوع عسى أن يختارها خالد جبر لعرضها على الشاشة، وكنا نحزن عندما لا يحصل ذلك”.
وتستدرك بالقول “كانت أجمل أيام الطفولة واليوم لا نرى ذلك، فالأطفال منشغلون بالهواتف الذكية والألعاب الإلكترونية”.
تحول حسين الرسام من طفل يهوى الرسم على إيقاع “المرسم الصغير” إلى فنان تشكيلي. يمثل خالد جبر بالنسبة له “معلم الأجيال والراعي الأول للطفولة في العراق”.
يضيف لـ”ارفع صوتك”: “جبر لم يؤسس برنامجاً فقط بل أسس هوية للكثير من أبناء جيلي ممن كانوا أطفالاً ينتظرون حلقات البرنامج بفارغ الصبر لتطبيق قواعد الرسم على صفحاتنا البيضاء”.
كما تقول فاطمة الرميثي وهي تستذكر طفولتها المبكرة بابتسامة على وجهها، أنها كانت “متعلقة بشدة ببرنامج المرسم الصغير، ففي صبيحة كل يوم جمعة تهيئ أدوات الرسم وتجلس أمام التلفزيون قبل أن يبدأ البرنامج بساعات”.
وتتابع فاطمة التي تعمل اليوم مقدمة لبرامج تلفزيونية: “كنت أنتظره بفارغ الصبر، وكانت والدتي تعرف مدى حبي وتعلقي بالبرنامج فتحرص على توفير الهدوء ولا تصدر أي ضوضاء يمكن أن تشغلني عن المتابعة لأتمكن من رسم لوحاتي”.
وتختم حديثها مع “ارفع صوتك” قائلة “حين نتحدث عن خالد جبر وبرنامجه في تعليم الرسم فإننا نقف أمام طفولتنا وهي بكامل أناقتها”.