“الفصل العشائري” بالعراق.. غرائب وتغول على القضاء

“الفصل العشائري” بالعراق.. غرائب وتغول على القضاء

في أحد قطاعات مدينة الصدر (شرق بغداد)، دلفنا مستدلين بشهرة الشيخ محمد الشمري، الذي اكتسبها من براعته في حل الخلافات العشائرية أو “الفصل العشائري” كما تسمى في العراق، حيث تكثر تلك الخلافات في هذا الحي الشعبي الشهير بالعاصمة العراقية، والمعروف بولائها المطلق للمرجع الشيعي محمد محمد صادق الصدر، وبأنه يضم خليطًا واسعًا من مواطني عشائر جنوب العراق ذات الأغلبية الشيعية يتعدى ثلاثة ملايين نسمة.

وبابتسامة دافئة استقبلنا الشمري بمجلسه في منزله المتواضع، واللافت أن رائحة القهوة العربية كانت تفوح بالمكان، فقد حرص أن تكون الأجواء ذات طابع حميمي وعشائري، حيث يجلس الناس على الأرض، وتملأ الرايات التي تبرز أهمية عشيرته، وصور آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جدران المجلس.

ويقول الشيخ المتخصص في علم الأحياء “أستقبل عشرات الحالات، وعادة ما أخصص يومي الجمعة والسبت لحل الخلافات العشائرية التي تتطلب تفرغا كاملا وصبرا على ردود الفعل العنيفة التي تبدر من بعض الأطراف المتنازعة”.

ويؤكد الشمري أن الفصل العشائري أصبح أكثر من السابق، موضحا “بعد العام 2003، أصبحت الأوضاع أكثر انفلاتا، والوضع الأمني في تدهور مستمر، فضلا عن القضاء المسيس الذي انعكس سلبا على المجتمع العراقي، الذي فقد ثقته بالمنظومة القضائية للبلاد”.

ويضيف “هناك العديد من القضايا التي عجز القضاء والقانون في البلاد على متابعتها، الأمر الذي أجبر العديد من العوائل المتضررة لاسيما تلك التي فقدت أبناءها قتلا أو خطفا للجوء إلى الفصل العشائري”.

وعن مغالاة العشائر في التعويضات المالية، قال الشمري “هذا أمر صحيح، فبعض العشائر طلبت مبلغ مليار دينار عراقي (حوالي 850 ألف دولار) دية لأحد أبنائها، واستطعنا أن نحسمه بمبلغ 150 مليون دينار (حوالي 128 ألف دولار)”.

ولا يخفي الشمري أن الأمور تخضع للتراضي والمساومات، وعادة ما تكون وبالا على عشيرة المعتدي، التي تتعرض للكثير من الضغوط والخسائر.

قانون مجحف
وبألم واضح تحدث إلينا الطبيب (علي. س)، الذي يقضي فترة التدريب في أحد مستشفيات محافظة ميسان جنوب بغداد، قائلا “في السابق كانت المدينة هادئة وأهلها بسطاء، مما أغراني بفتح عيادتي وسط المحافظة”.

وتابع “لكن الأمور تطورت بشكل غريب عندما حضر رجل مستصحبا زوجته للمعاينة، مبينا “أن المرأة كانت تشكو تحسسا في الجلد، وبعد الأسئلة الروتينية، استفسرت عن حالتها النفسية التي أكدت أنها تعاني من بعض المشاكل”.

وأضاف الطبيب “في اليوم التالي حضر أهل الزوجة إلى العيادة مطالبين بالجلوس للفصل العشائري الذي غرمني عشرة ملايين دينار عراقي (8500 دولار) وغلق عيادتي”. وعن الأسباب قال الطبيب “يبدو أن الزوج أرادها حجة لطرد زوجته التي نعتها بالمجنونة، الأمر الذي أثار حفيظة عائلتها التي ترى أن تشخيصي كان السبب وراء ذلك”.

وبالرغم من صدور قانون حماية الأطباء عام 2013، الذي أقره مجلس النواب وصادق عليه رئيس الجمهورية ونصت بعض مواده على “حماية الأطباء من الاعتداءات والمطالبات العشائرية والابتزاز”، فإن التهديدات والاعتداءات ما زالت تطال الأطباء في العراق.

وفي رواية لموقف آخر لا يخلو من الغرابة، تحدث “خ. كريم” عن معاناته قائلا “أجبرت على دفع مبلغ سبعين مليون دينار (حوالي 60 ألف دولار) دية لزوجتي وابنتي اللتين غرقتا في رحلة الهجرة إلى أوروبا، بعد أن اتهمتني عائلتها بأنني السبب وراء قرار هجرتها الذي أبرمته مع شقيقها الذي يستقر في إحدى الدول الأوروبية”.

وأضاف معبرا عن استغرابه لهذا الوضع “لا قانون يحمينا من سطوة العشيرة، التي باتت تفرض قرارتها وإن كانت مجحفة بدون أي رادع حكومي”.

وقصتا علي وكريم، واحدة من آلاف القصص التي تنتشر في البلاد، والتي تعبر عن سطوة قانون العشائر على الشارع العراقي، خاصة أن كثير من العوائل في محافظات الوسط والجنوب ومناطق في بغداد، أصبحت تلجأ إلى العشيرة لحل النزاعات التي تحدث بينها من خلال تسويتها أو تعويض المعتدى عليه تناسب ما لحق به من أضرار.

موقف مشابه
ويعترف أحد شيوخ السعيدات في قضاء الطارمية (شمال بغداد) ذي الأغلبية السنية، بأن الفصل العشائري لا يقتصر على المناطق الجنوبية فحسب، فأغلب العوائل السنية تعمد إليه خاصة في جرائم القتل والتصفيات الجسدية، التي اقترفتها الجماعات المسلحة وثبت تورط بعض أبناء العوائل بها.

ويلفت إلى أن “العشيرة تعمد عادة إلى إنذار العشيرة الأخرى، وفي حال رفضت قبول الفصل العشائري الذي يفرض دفع الدية (وفق الشريعة الإسلامية) فإن ترحيل العائلة عن المنطقة يصبح أمرا محتما، حيث يكتب على الدار (مطلوب عشائريا)”.

وعن قساوة القرار على العائلة برمتها، قال بمضض “هذا هو الدارج والمتعارف عليه بقوانين العشائر، وعلى الجميع الالتزام به وإن كان جائرا”.

الفصل العشائري في العراق طغى على دور القضاء المدني (الجزيرة)

رأي القانون
ويرى الخبير القانوني طارق حرب أن مثل هذه الحوادث تتكرر كل يوم في حين يقف القانون عاجزا عن التدخل. مؤكدا “أن الخلل يكمن في ثقافة المجتمع الذي بات يلوذ بالعشيرة دون قوانين الدولة، فهناك جهل من كافة الطبقات، فالأستاذ الجامعي والطبيب والمسؤول باتوا يلجؤون إلى العشيرة لحل مشاكلهم سواءً في العمل أو حياتهم الخاصة”.

ويعترف بأن هناك عشائر فاسدة استغلت وضع البلاد غير المستقر. ويقول “لقد تحولت هذه الظاهرة من مجرد قوانين عرفية تنظم حياة الأفراد إلى وسيلة للابتزاز واستغلال للنفوذ الذي تتمتع به بعض العشائر”.

وعن دور الحكومة قال حرب “أغلب الحكومات التي توالت بعد عام 2003، ضعيفة، وقد لجأت إلى تقوية حكمها بالاعتماد على المحاصّة الطائفية والعشيرة، على حساب حقوق المواطنين”.

وتتفق أستاذة علم الاجتماع الدكتورة فوزية العطية مع رأي حرب على أن مرحلة ما بعد 2003، أفرزت نظاما مبنيا على أسس طائفية، قائة “أصبحت العشيرة مؤدلجة طائفيا، الأمر الذي ساعد على تجزئة المجتمع الذي شوه بطريقة أفقدته ترابطه”.

بعض العشائر تستفيد من ارتباطاتها الحزبية القوية في توظيف الفصل العشائري لصالحها (الجزيرة)

النساء ضحايا الفصل
وفي قضية جوبهت بانتقادات عديدة لبشاعتها، غرمت إحدى العشائر في محافظة البصرة بجنوب العراق، عشيرة أخرى في المدينة باقتياد خمسين امرأة كفصل عشائري (بدل)، إثر نزاع بين عشيرتين أدى إلى مقتل عدد من المدنيين بعد استخدام الرصاص الحي في الاشتباكات.

ويتم تزويج هؤلاء النساء قسرًا من رجال العشيرة التي استحوذت عليهن وفقًا للحكم العشائري، ولا ينظر إليهن على أنهن زوجات لهن حقوق، بل هن مجرد ثمن مقبوض عن دم ابن العشيرة المقتول.

وبشأن ما تتعرض له النسوة من ظلم جراء بعض القرارات تقول الناشطة المدنية بشرى العبيدي “إن تسليم النساء كثمن لإنهاء نزاع عشائري، يعد جريمة يعاقب عليها القانون العراقي وفق المادة 9 من قانون الأحوال الشخصية المرقم 188، لكن للأسف لا يوجد هناك تطبيق للقانون”.

وطالبت العبيدي “الحكومة باعتبارها المسؤولة عن حماية الشعب والمرأة التي تتعرض لانتهاكات باسم العشيرة، بحمايتها وفرض قوانين رادعة لضمان عدم الاعتداء عليها بأي شكل من الأشكال”.

لكن رئيس لجنة العشائر النيابية عبود العيساوي لديه رأي آخر، حيث يرى أن “المجتمع العراقي، مجتمع عشائري بالدرجة الأساس، وبالتالي فإن العشيرة تتصرف ضمن الضوابط الاجتماعية التي تخفف عن الدولة الكثير من الأمور القضائية بحلها”.

وعن المغالاة في طلب التعويضات، قال العيساوي “إن العشائر الأصيلة ترفض بشدة ما تقوم به بعض القبائل المرتبطة ببعض الأحزاب السياسية في البلاد”، مؤكدا أن هناك كثيرا من الأفعال المخالفة للأصول والعادات.

السياسي والعشيرة
وغالبا ما تنظر العشائر في جرائم القتل والسرقة والشجار والطلاق والزواج والإرث، وقضايا جنائية واجتماعية مختلفة، لكنها تجاوزت ذلك فبتّت مؤخرا في قضايا تتعلق ببعض أعضاء البرلمان، الذين فضلوا القانون العشائري على قانون المحكمة الخاصة بالبرلمان أو القضايا المدنية، مما شكل صدمة لدى الشارع العراقي.

وسبق لعشيرة النائبة حنان الفتلاوي (رئيسة حركة إرادة)، أن غرمت عشيرة المتحدث باسم كتلة الموطن (التابعة للمجلس الإسلامي الأعلى) بليغ أبي كلل، على خلفية تصريحات متلفزة مبلغ 100 مليون دينار (حوالي 85 ألف دولار)، خلال الفصل العشائري الذي حصل في مدينة الحلة جنوب بغداد.

وتوقع المحلل السياسي واثق الهاشمي ازدياد الاستعانة بالعشيرة في حل الخلافات والنزاعات خلال المرحلة المقبلة، مبينا في تصريحات صحفية أن “هذه الحالة ستتفاقم، وقد يصل الأمر إلى تكميم الأفواه وقمع حرية التعبير بتهديد الصحفيين، وكل من يتجرأ على فتح أي ملف أو انتقاد أي جهة”.

ويرى الهاشمي “أن القضاء العراقي يعيش أزمة بسبب اتهامات الشارع له وعدم ثقة المواطن بأدائه، الأمر الذي سيسبب له حرجا إذا ما حاول البتّ في القضايا العشائرية”.

وقد أصبحت وظيفة المحاكم الرسمية العراقية مقتصرة على تسجيل عقود الزواج، وأمور الطلاق، ونقل الملكية، وتلبية حاجات شريحة من العراقيين الذين لا ينتمون إلى عشائر.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *