الطيران العراقي والخطوط الجوية العراقية في العهد الملكي

الطيران العراقي والخطوط الجوية العراقية في العهد الملكي

تأسست الخطوط الجوية العراقية على يد جمعية الطيران العراقية، عندما قررت الهيئة الإدارية في 18 مايو 1938 استثمار فائض حملة التبرعات الوطنية الشاملة. أسفرت هذه الحملة عن تمويل قوة الطيران العراقية في ذلك الوقت وشراء 15 طائرة قاصفة ومقاتلة إيطالية من طراز (بريدا وسافوي). وبلغ الفائض 23,000 دينار عراقي، ما سمح للخطوط الجوية العراقية بشراء ثلاث طائرات بريطانية من طراز de-Havilland DRAGON، والتي وصلت إلى بغداد في 1 أكتوبر 1938.

بدأت الخطوط الجوية العراقية رحلاتها إلى إيران وسوريا، وظلت تابعة لجمعية الطيران العراقية حتى 1 يناير 1946، عندما تم دمجها في مصلحة السكك الحديدية بأمر من الحكومة. تُعتبر الخطوط الجوية العراقية من أقدم الخطوط الجوية في الشرق الأوسط وهي عضو في الاتحاد العربي للنقل الجوي. كانت لجلالة الملك فيصل الثاني طائرات خاصة به، حيث كان لديه الطيار اللواء جسام محمد الشاهري والطيار عبد الحق العجيلي، اللذان خدما كطيارين خاصين للملك. وكان لرئيس الوزراء نوري السعيد ورؤساء الحكومة السابقين استخدام الطائرات التابعة للخطوط الجوية العراقية.

تاريخياً، كان جلالة الملك فيصل الثاني لا يطلب شخصياً جواز سفره عند السفر من مطار بغداد المدني، حيث كان المقدم عبيد عبد الله المضايفي يقدم جوازات السفر للعائلة المالكة في الذهاب والإياب. وكان جواز الملك يحمل اسمه الكامل ولقبه، جلالة الملك فيصل الثاني، ملك العراق. أما الوصي عبد الالة، فكان يحمل جوازين، الأول دبلوماسي باسم ولي العهد، والثاني خدمة باسم العقيد عبد الله الهاشمي، موضحاً المهنة كعقيد في الجيش العراقي.

لم يشاهد الوصي عبد الاله أبداً ركوب الطائرة الخاصة بالملك، وكان لافتًا حضور بارز لطيارين مدنيين، منهم الكابتن يوسف الخوري والكابتن إسماعيل فتاح، والكابتن عمر الصالحي، والكابتن جاويد عمر دراز، والكابتن موفق أحمد نافع العاني، والكابتن شبوط وغيرهم. وكان من بين الضباط اللاسلكيين الكابتن جورج ستانلي والكابتن سامي يساوي. رئيس المهندسين في تلك الفترة كان البريطاني المستر هنتي، وكان ضمن ضباط الإعاشة داود محمود رامز والاستاذ سهام محمد رؤوف العبيدي الذي رفض تولي المنصب مشيرًا إلى شروطه، منها رفض بيع المشروبات الكحولية في الطائرة بسبب اعتبارها حرامًا. من الشخصيات المعروفة في مطار بغداد المدني كان المدرب البريطاني الكابتن ولتر الذي قدّم جهودًا كبيرة في تدريب الطيارين العراقيين.

الكابتن ولتر كان يضع تأكيدًا على تدريب الطيارين خلال الليل، مما أدى إلى تكوين طيارين ماهرين يُشار إليهم بالبنان. يتميز تأسيس الخطوط الجوية العراقية بعدم وقوع أي حوادث حتى بداية السبعينات. في ثورة تموز 1958، تم إنهاء عقد المستر ولتر، وعندما أراد السفر، جمع الطيارين الذين قادهم وقال لهم ببكاء: “أنتم أغلى من أولادي”. وكان هؤلاء الطيارين يبلغون نحو عشرة في تلك الفترة.

من الملفت والمؤثر في ذلك الوقت، كان هناك موظف يُدعى السيد (آرا كورشيان)، وهو أرمني الأصل، يُعتبر نموذجًا للمعلومات الفنية والأخلاق الرفيعة والعلوم الإدارية. خدم في الخطوط الجوية العراقية لسنوات طويلة دون ترقية، بحجة عدم حصوله على شهادة جامعية. في إحدى الأيام، قدّم السيد آرا عريضة طلبًا للترقية إلى المرحوم صباح نوري السعيد، مدير الطيران المدني العراقي، لكن الروتين الحكومي أدى إلى رفض الطلب بحجة عدم وجود شهادة جامعية.

رغم أن راتب المستر آرا كان أقل من ثلاثين ديناراً، قدمت شركة بان أمريكان للطيران عرضاً براتب 200 دينار في ذلك الوقت. رفض المستر آرا هذا العرض في البداية، معبّراً عن اخلاصه لوطنه العراق. ألمح إلى المدير صباح نوري السعيد بتمنياته لراتب قدره خمسين دينارًا فقط ليظل يخدم بلده. رد المدير بالرفض نظرًا للقوانين، ورغبته في عدم إعاقة رزقه أو تقفيل مساره المهني.

رغم هذا الرفض، قدّم المستر آرا استقالته وانضم إلى الخطوط الأمريكية براتب 200 دينار. ولم يمضِ على انضمامه سوى سنة واحدة حتى أصبح مديرًا إقليميًا لشركة بان أمريكان في الشرق الأوسط. كرّس نفسه كشخص معروف في أمريكا بفضل ذكائه وإدارته الناجحة.

في عام 1953، أحداث أخرى أثرت على الخطوط الجوية، حيث كانت طائرة عراقية مستعدة للرحيل إلى طهران. بسبب طارئ، غابت المضيفة المسؤولة عن الرحلة. وفي ذلك الوقت، كان يتعين عادةً على سلطة الجوازات فحص الطائرة، وقد دخل موظف (ط.ف) سراً لتقديم خدمات الضيافة دون علم الجوازات.

عند إقلاع الطائرة، أبلغ شخص الجوازات بتسلّل أحد موظفي الخطوط الجوية بدون جواز سفر. رفع المفوض (ص) الذي أخبر المراقب جميل هرمز، كابتن الطائرة، أمراً بالهبوط الفوري لمخالفة قانونية. استجاب الكابتن على الفور وهبطت الطائرة في مطار بغداد المدني.

عندما سُمع المدير العام صباح نوري سعيد بالواقعة، استنفرت غضبه وصاح بالتساؤل حول الشخص الذي أمر بإنزال الطائرة أثناء الرحلة. كان المفوض (ص) شجاعًا في إعلانه أنه أصدر الأمر لاكتشاف تسلّل موظف من دائرتهم بدون جواز سفر. عندها تقدّم صباح نوري السعيد وفريق الخطوط الجوية العراقية ومنتسبو الجوازات إلى باب الطائرة. عند فتح الباب، صاح المفوض (ص) يا (ط.ف) انزل، وعندما نزل، طلب منه صاحب السمو أين جواز سفره، وأجاب بعدم وجوده. غضب صباح نوري السعيد وصفع (ط.ف) بقوة، فصرخ صاحب السمو بسؤاله عن جواز سفره. بعد الإجابة السلبية، غادر صباح نوري السعيد وعادت المضيفة وانطلقت الطائرة.

في عهد الملكية، كانت أسعار الرحلات الداخلية على متن الخطوط الجوية العراقية متنوعة، فمثلًا كانت رحلة بغداد – موصل – حلب على الطائرة من نوع دوف بسعر ستة دنانير إلى الموصل وثمانية دنانير إلى حلب. بينما كانت رحلة بغداد – بصرة بسعر عشرة دنانير ذهابًا وإيابًا على متن طائرة من نوع فاي كنك، وكانت رحلة بغداد – لندن بسعر مئة دينار ذهابًا وإيابًا.

توفرت تخفيضات للطلاب بنسبة 50%، وكان عدد المسافرين قليلاً، حتى أنه كان من النادر أن تمتلئ الطائرة بشكل كامل. فيما يخص السفر إلى مكة المكرمة، كان سعر بغداد – جدة خمسين دينارًا ذهابًا وإيابًا.

كانت للمسافرين الذين يقدمون أربعة مسافرين تخفيضات، حيث كانوا يحصلون على البطاقة الخامسة مجانًا. بارعًا في هذا الجانب كان الحاج عطا الله زيدان الصعب، الذي استفاد من هذه العروض وحصل على أكثر من واحد وعشرون بطاقة مجانية خلال عقود من الخدمة للخطوط الجوية العراقية.

أما بناية مطار بغداد المدني، كانت قاعدة استقبال بمساحة كبيرة تضم مكاتب شركات الطيران ودوائر كمارك وجوازات وغرفة للاستراحة وبار للمشروبات. كان مدرج الطائرات يتسم بطريقة بدائية للإضاءة، حيث كانت الشعلات النارية المشتعلة تُستخدم لتحديد حدود المدرج. كما كانت هناك تحديات تتعلق بالإضاءة في ليالي العواصف ومواجهة تحديات الرياح.

على الصعيدين الفني والإداري، كان للمطار تاريخ حافل بالشخصيات البارزة، بداية من المديرين وصولاً إلى موظفي الجمارك والطيارين. تعكس هذه القصص أحداثًا وتفاصيل شيّقة من حياة المطار في ذلك الزمن، بتحدياته وطرائفه.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *