من أكثر الأصوات التي يمكن أن تتناهى إلى مسامع شخص ما، وهو يتجول في أسواق وشوارع الحارات الشعبية في أي مدينة عراقية هو صوت “خاشوقة الجاي” (ملعقة الشاي) في “الاستكان” العراقي الشهير. صوت مميّز ومعروف بسبب خفّة زجاج “الاستكان”، حين تضرب به ملعقة الشاي الصغيرة المصنوعة من معدن النحاس أو الألمنيوم.
ولا يستسيغ العراقيّون شرب الشاي سوى في “الاستكانات”، (جمع “استكان”)، وهو قدح صغير من الزجاج له شكل معروف، ومعه صحن صغير مخصّص له وملعقة صغيرة. ويُشاع أنّ كلمة “استكان” مشتقة من كلمة (East Tea) التي عرفها العراقيّون من الجنود الإنكليز لدى احتلال العراق بعد الحرب العالمية الأولى، أي أنها في الأصل كلمة إنكليزية تعني الشاي الشرقي.
والشاي بالنسبة للعراقيّين مهمّ للغاية، بل هو الشراب المفضل في أي وقت، خصوصاً بعد تناول وجبات الطعام، ويمكن القول إن كثيرين يعتادون على شربه، ويشكون الصداع أو عدم التركيز في حال عدم تناوله في أوقات محدّدة، أهمها خلال الصباح.
وتظهر أهميّة الشاي لدى العراقيّين في انتشار باعة الشاي في كلّ مكان داخل المدن، بعضهم جوالون وآخرون يصنعون أكشاكاً صغيرة على الأرصفة وبين المحال التجارية وفي الأسواق لإعداد الشاي وبيعه. ومن المشاهد المعتادة في مدن العراق رؤية أشخاص يقفون على الأرصفة ويشربون الشاي من باعة جوالين.
والعراقيّون يتناقلون الطرائف في هذا الصدد، ساخرين من علاقاتهم القويّة بالشاي، خصوصاً في فصل الصيف، حين ترتفع درجات الحرارة وتتجاوز في أحيان كثيرة الخمسين درجة، وعلى الرغم من أن المناسب في مثل هذا الطقس هو أن يتناول الشخص المياه والعصائر الباردة كما هو معروف، فإنّ العراقيين يقفون تحت أشعة الشمس اللاهبة ليشربوا “استكان” شاي ساخن من أحد الباعة الجوالين.
ويفضّل العراقيون شرب الشاي ساخناً. وعليه، يحرص معدّو الشاي أن يديموا سخونة مشروبهم. وللشاي العراقي نكهة تميّزه عن الشاي في بلدان أخرى. العراقيّون يفضلون الشاي “المخدّر”، وهي كلمة تعني إعداد الشاي على نار هادئة حتى “يَخدَر”، في تعبير ينمّ عن عشق العراقيين للشاي.
وفي تخدير الشاي صنعة لا تخلو من “سرّ”. باعة الشاي، وأصحاب المقاهي لا يذيعون سرّ خلطات الشاي، ويستخدمون أصنافاً من الشاي يخلطونها بكميات معينة ويضيفون إليها الهال. ويقول عادل الدوسكي لـ”العربي الجديد”: “ورثت سرّ خلطة الشاي عن والدي، ولن أبوح بها سوى لولدي حين ينهي دراسته الجامعية ويتولى إدارة المقهى من بعدي”.
الدوسكي، وهو في العقد الثالث من العمر، يؤكّد أنه يفضل مذاق الشاي الذي يعده، لافتاً إلى أنه يدر عليه أرباحاً يصفها بأنها “أكثر من جيدة”. ويوضح أن والده كان يملك مقهى في حي الفضل الذي يعد من أقدم أحياء بغداد وأكثرها شعبية واكتظاظاً بالسكان، وقد اشتهر بسبب مذاق الشاي الذي يقدمه في مقهاه.
يضيف: “تعلمت من والدي سرّ المهنة، وما هي نوعية الشاي التي تنفع في إعداد شاي بمذاق جيد. وعلى الرغم من تغيّر أصناف الشاي باستمرار اعتماداً على ما يستورده التجار، يبقى السر في معرفة نوعية الشاي من خلال لون وليونة ورائحة وطعم الشاي”.
يتابع الدوسكي: “هناك صنف أعتمده بسبب لونه الغامق، ولا يهم إن كانت نكهته غير جيدة. وصنف آخر مذاقه رائع وآخر يمتاز بنكهة معينة. هناك عدة أصناف أستعين بها كي أصنع الشاي بمذاق لذيذ”.
والشاي العراقي يمتاز بلونه الغامق، وهو المفضل لدى العراقيين الذين يطلقون على الشاي “چاي”، بالجيم بدلاً من حرف الشين. وبلغ بهم حدّ الولع بالشاي أن تناولوه في أغانيهم، لا سيما أن واحدة من أشهر الأغاني التراثية التي يرددها العراقيون حتى اليوم تتغنى بهذا الشراب، ويقول مطلعها “خدري الچاي خدري”، وهو أمر يوجه لإحداهن كي تصنع الشاي. تضيف: “عيوني المن (لمن) أخدره؟”، وتعكس تساؤلاً عمّن يستحق أن تصنع له الشاي. تواصل، وهي ترفض عمل الشاي إلا لحبيبها، في دلالة على أهمية الشاي وتخصيص صناعته بمذاق طيب لمن يهواه قلبها، فتقول: “بعد هواي (حبيبي) يا ناس المن (لمن) أنا أصبه (أقدمه)، محد (لا أحد) بعد عيناه يستاهل يشربه، أحلف ما أخدره ولا أكعد اكباله (ولا أجلس أمامه) إلا يجي (يعود) المحبوب وأتهنى بجماله، إي والله وحياتك أبداً ما أخدره وآخذ فاس (فأس) بيدي للقوري (إناء الشاي) أكسره”.
ويطلق العراقيون اسم القوري على إناء صنع الشاي، وله ميزة خاصة ومكانة عندهم، إذ يرتبط بالشاي وصناعته. وفي الغالب، يعتمد العراقيون في صناعة الشاي على “قوريين اثنين”، أحدهما أكبر من الثاني. يوضع الصغير وفيه الشاي والمياه على فوهة الكبير الموضوع مباشرة على النار، وبذلك يتم “تخدير” الشاي على بخار الماء.
ومن بين أشهر ما تناوله التراث الشعبي العراقي عن الشاي مقطوعة من مجموعة مقطوعات صغيرة تتغنى بالشاي تقول: “أسمع رن (رنين) استكاين چا وين (إذاً أين) الچاي”، في إشارة إلى صوت رنين الملعقة وهي تحرك السكر داخل استكان الشاي لتذيبه، وهذه المقطوعة تردد مع مقطوعات أخرى لا يرتبط بعضها ببعض، إذ إن كل مقطوعة تتحدث عن موضوع مختلف. وهذا فن شعبي تخصصت به النساء، وعادة ما يرددنه بمناسبات الأفراح الخاصة.
ويقول حازم داخل، وهو رجل سبعيني اعتاد الجلوس في مقهى قريب من داره في حي المستنصرية في بغداد، إن سماع صوت ملاعق الشاي وهي تتحرك داخل “الاستكان” يريح أعصابه. يضيف لـ”العربي الجديد”، أن “عدد مرتادي المقهى كبير وهو السبب وراء عدم توقف سماع الصوت الجميل بسبب تحريك الملعقة داخل استكان الشاي”. ويشير إلى أنه “مدمن” على الشاي، موضحاً: “لا أقول الإدمان بمعنى فقدان الإرادة والتصرف مثلما تفعل المخدرات، لكنه تعبير مجازي للتأكيد على أهمية الشاي بالنسبة لي”.
ويستطرد قائلاً: “عشقي للشاي جعلني أتعرف على أفضل المقاهي وصناع هذا الشراب في مناطق عديدة في بغداد. كلما كنت في حي من أحياء بغداد، أتناول الشاي في مقاهيها. وعليه، صرت أعرف أفضلها وبات لدي العديد من المقاهي المفضلة في أحياء مختلفة”.