السماور.. السلطان الذي يتوسط مجالس العائلات الشعبية في العراق، حيث تتجسد البهجة والحبور على وجوه المحيطين به. يثير هذا الكأس المعدني الكبير فضولنا، فما هو سر السحر الذي ينبعث منه؟ وما هي النغمة الموسيقية التي ترافق هذا الشيء الذي أحببناه وسط نفوسنا؟ يأخذ السلطاننا الشاي في الحقول والبساتين، يرفع شموخه مع كل خروج، ويجلس في حضن الطبيعة الخلّابة. ورغم ذلك، قد يظل الكثيرون جاهلين بأصل هذا الوعاء الجميل وتفاصيل صناعته وارتباطه بتراثنا الشعبي.
السماور، هذا الوعاء الذي يشغل مكانة خاصة في ثقافة العراق، هو أصله من أذربيجان، وليس من الفارسية كما يظن البعض. يتألف اسمه من “سما” و”فار”، أي “طبخ بنفسه”. يظهر أن وظيفته لم تكن مقتصرة على تسخين الماء لتحضير الشاي فقط، بل كان له دور آخر في طهي وتسخين بعض الأطعمة بفضل حرارته الجيدة. ورغم أنه يُعرف بـ”السماور”، إلا أن اللفظة “السما فار” استبدلت لكونها تحمل الفاء الأعجمية التي لا تلاقي رواجًا بين الناس.
في ثقافة العراق، يرتبط السماور بشكل كبير بتناول الشاي، وكان مستعملًا بشكل محدود في بغداد قبل الحرب العالمية الأولى، حيث كان يُشرب في فترة المساء بشكل رئيسي. ويُعزى انتشار هذا الوعاء الفولكلوري في العراق إلى الاتصالات مع إيران ووجود جالية إيرانية كبيرة في البلاد. بعد أن انتقل السماور من إيران، أصبح جزءًا أساسيًا من الثقافة العراقية، ونشأت طائفة من الحرفيين الماهرين في صنعه وتزيينه بأسلوب لا يقل أناقة عن السماور المستورد.
تتميز مدينة كربلاء بفن صناعة البرنج بشكل استثنائي، حيث يتكون البرنج من خليط الصفر والرصاص، وكان يُستورد قديمًا على هيئة صفائح تشبه كورق المقوى بلونه الأصفر. يُستخدم البرنج في تصنيع السماورات والمناقل والدواليك والصواني الكبيرة والصغيرة، حيث يُزين بصور ونقوش بديعة تشمل صور الملوك والمناشر والقباب المقدمة، بالإضافة إلى الكتابة عليها بعض الأدعية والسور القرآنية القصيرة.
عامل البرنج، المعروف بـ”الدوانكر”، أي صانع الدواة، حيث الدواة تُصنع من البرنج مسبقًا. ويشمل هذا المصطلح جميع العاملين في صناعة البرنج. توجد معامل متخصصة تقوم بإنتاج مختلف أنواع البرنج.
في إطار التراث الشعبي، يُعتبر البرنج فنًا يستمد أصالته من محاولات فنانين يعملون بدافع عفوي، حيث يقومون بكل جهدهم ليختاروا الموضوع وينفذوا العمل بأنفسهم. ورغم أن السماور أتت من خارج العراق، إلا أنها أصبحت جزءًا من التراث الشعبي العراقي بفضل اندماجها بشكل عميق مع الحياة اليومية والمهارات المتقنة للحرفيين العراقيين الذين طوّروا وصقلوا هذا الفن بروحهم الفنية.
في بغداد والمدن العراقية، خلال العقود السابقة، لم تكن هناك الحدائق والمتنزهات الحديثة التي نشهدها اليوم، بل كانت الحقول والبساتين المليئة بالأشجار والثمار هي الملاذ الذي يلجأ إليه العراقيون، خاصةً أهالي بغداد، لقضاء أوقات سعيدة في المناسبات المختلفة. السماور كان رفيقهم في هذه المناسبات، فكان من النادر أن تجد عائلة لا تحمل هذا الوعاء البحري الجميل.
السماور كان سيد الحلقات الشعبية في المواسم والمناسبات، وكان يحظى بشعبية خاصة خلال احتفالات النوروز، التي كانت من أجمل المواسم الشعبية بين العراقيين، سواءً كانوا عربًا أو أكرادًا. كان النوروز، الذي يحل في اليوم الحادي والعشرين من مارس، يُعرف في بغداد بيوم الربيع أو يوم “دورة السنة”، وكانت العائلات تخرج إلى الطبيعة المليئة بالألوان والخضرة، حاملين معهم السماورات وملحقاتها، المعروفة باسم “العدة”، إلى جانب المأكولات والفواكه والكرز والمزيد. احتفالات دورة السنة تستمر لثلاثة عشر يومًا، وكانت أبرز المناطق التي تشهد الاحتفالات في بغداد هي (سلمان باك) و(الكاظمية) و(السيد محمد) و(سامراء) وغيرها من ضواحي المدينة.
السماور لم يقتصر على أدواره في حلقات السمر والنزهة خلال احتفالات الربيع، بل كان يلعب دورًا أساسيًا في الكلات، وهي الاحتفالات التي كان ينظمها أهالي بغداد في اليوم التالي لكل عيد، سواء كان عيد الفطر أو عيد الأضحى. ومن بين أبرز هذه الاحتفالات كانت كسلة كرادة مريم في الجمعة الأولى بعد العيدين، وكسلة سيد ادريس في الكرادة الشرقية في الأحد الأول بعد العيدين، وكسلة أبو رابعة في الأعظمية في الأربعاء الأول بعد العيدين.
إلى جانب المناطق المذكورة، كانت مناطق الشيخ معروف وبراثا في العطيفية والشيخ عمر تشهد هذه الاحتفالات. السماور كان يعزز من أجواء هذه التجمعات الشعبية ببهجة وتألق، حيث يمتزج فيه الفن الشعبي الرفيع بالبساطة العفوية التي تميز الفنون الشعبية. كان السماور يُضفي رونقًا ساحرًا جعل قلوب الناس تنبض بالفرح لفترة طويلة، ويبدو كأنه صُنع خصيصًا لمثل هذه المناسبات، حيث جمع بين الفن الرفيع والبساطة العفوية. وهذا، في رأيي، هو السر وراء انجذاب الطبقات الشعبية إليه، كما يفسر مقولة مكسيم غوركي: “إن الفولكلور له القدرة على خلق صورة عميقة وواضحة ولها قوة التعميم وخاصة فيما يتعلق بصلة الإنسان بالعمل”.
السماور، بخلاف وظيفته الأساسية كوعاء لتسخين الماء وتحضير الشاي، يلعب دورًا فعّالًا في التدفئة. في بيوت الشعراء الشعبيين التاليين، يستمد الشاعر الشعبي الفخر من امتلاكه لسماور الشاي الذي يحميه من قساوة برد شهر شباط:
من الشاعر النايل:
شباط (الازرك) نحرني
قولجي ورمأي
وإذا ما جان ناشك برد
عدنا سماور جاي
ومن خلال الأغنية الشعبية القديمة “خدري الجاي خدري”، يُظهر السماور كجزء لا يتجزأ من تجارب الحياة والحب التي يرتبط بها الناس، وكأنه صانع لحظات لا تنسى:
خدري الجاي خدري
عيوني المن أخدره
مالج يا بعد الروح
دومج مكدره
فالشاي لا يكتمل طعمه إلا بحضور الحبيب، ويظهر هذا الاهتمام الخاص حين يكون الحبيب غائبًا:
لا أملي السماور
ولا أغسل الماعون
ثم تكحل عيناها
حين يأتي الحبيب
وفي ختام القصيدة، يُستدعى الجمال الساحر للحبيب، مما يجعل اللحظة أكثر إشراقًا:
والكذلة عدة جاي
بيها استكانات
واذا كان لي القول الأخير هنا، فإنه يتعلق بأن السماور لم يفقد رونقه في قلوب العراقيين، فهو يظل أثرًا فولكلوريًا يزين منازلهم وبعض المقاهي. ورغم اختفاء معظم المهرجانات الشعبية، يظل وجود السماور يقتصر في الوقت الحالي على كونه جزءًا من التراث الشعبي الذي يزين المنازل والأماكن البارزة. يُشيد بمرور الزمن، ولكن لن ينسى السماور الدور الكبير الذي لعبه في حياتنا.
تعتبر السماورات من الأدوات المهمة في تحضير الشاي، وتتنوع أنواعها من حيث التصميم والهيكل العام. تحتل الشاي منطقة القسم السفلي، ويخرج منها أنبوب أسطواني يمتد إلى القمة، مشابهًا للجزء السفلي للمدفأة النفطية. يتكون الجدار الخارجي للسماور من وعاء مجوف لاحتواء الماء الساخن الذي يتدفق من الحنفية، وتأتي مع مقابض يدوية على الجانبين لسهولة حملها. يُضاف عادةً قوري على القمة للحفاظ على حرارة الشاي، وتشمل الملحقات الصينية والطاسة للتخلص من فضلات الماء الساخن.
توجد نوعان رئيسيان من السماورات: النوع الفارسي والنوع الروسي، وتتنوع حسب السعة والحجم مثل (بك لتري)، (دولتري)، (سه لتري)، (بنج لتري)، وغيرها. يتم استخدام الأحجام الكبيرة أكثر شيوعًا في المنازل، بينما يُستخدم النوع الأصغر كزينة ويزين بالأحجار الكريمة.
تتنوع أيضًا السماورات من حيث وقود التشغيل، فتكون بالنفط أو الكهرباء أو الفحم، وكان الفحم هو الوقود الأكثر استخدامًا في الماضي. ويعتبر البرونز هو المادة الرئيسية لصناعة السماور، ويمكن أن يتم تطويعه بالنيكل أو الكروم للمزيد من المتانة وعدم الصدأ.
السماورة تشكل جزءًا لا يتجزأ من التراث الفولكلوري، حيث يُعتبر “الفولكلور” مصطلحًا يضم في طياته الآثار العفوية للشعب، سواء كانت من خلال التراث اللفظي أو المصنوعات الشعبية. يحتل الحرف والأشياء التقليدية مكانة مهمة في هذا السياق، ومن ضمن هذه المصنوعات الشعبية الرائعة يتألق السماور كتحفة فولكلورية، إذ يمثل جزءًا أساسيًا من التقاليد والعادات الشعبية. يُرتبط استخدام السماور بشكل وثيق بالعديد من المناسبات مثل الكسلات والاحتفالات الشعبية، ما يضفي عليها طابعًا فولكلوريًا خاصًا.