الدكتور صموئيل كريمر استاذ الآثاريين العراقيين

الدكتور صموئيل كريمر استاذ الآثاريين العراقيين

تمهيدًا: يتضح من خلال استعراض المصادر والمراجع التاريخية حول العراق القديم وتاريخ التنقيبات الآثارية، والتي انطلقت في منتصف القرن التاسع عشر، وجود سجل طويل يضم أسماء الآثاريين الأجانب الذين ساهموا في اكتشاف حضارات ومدن وشعوب نشأت على أرض وادي الرافدين لآلاف السنين. وكانت هذه الحضارات مجهولة للمؤرخين في الأزمنة السابقة.

عند التركيز على الحضارات القديمة في العراق، يبرز الدكتور صموئيل نوح كريمر، الروسي الأصل والجنسية الأمريكية، باعتباره رائدًا في ميدان البحث حول المسماريات والسومريين. يُعتبر الدكتور كريمر شخصية مهمة مرتبطة بالعراق، ويعرفه العراقيون عامة والآثاريون خاصة من خلال عمله ومؤلفاته حول السومريين وإنجازاتهم الأدبية وغيرها. يُذكر أن الدكتور كريمر كان مُدرسًا للعالمين طه باقر وفؤاد سفر في جامعة شيكاغو، حيث تلقوا دروسه في علم الأشوريات وخاصة اللغة السومرية في منتصف الثلاثينيات. تشكلت رابطة علمية قوية بين الدكتور والطلاب، طه باقر وفؤاد سفر، واستمرت لنصف قرن تقريبًا.

الدكتور كريمر كان على اتصال وثيق ومستمر مع العراق وتاريخه وآثاره. في عام 1929، قدم اطروحته في علم اللسانيات السامية Semitics المتعلقة بقواعد اللغة في الرقم الطينية من مدينة كركوك. بعد عام، انضم إلى بعثة الآثار الأمريكية المشتركة من جامعة بنسلفانيا والمدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية (Asor)، حيث نقبوا في مواقع أثرية في شمال ووسط العراق. في عام 1945، دُعي إلى العراق وألقى محاضرة عن السومريين والملاحم والأساطير السومرية في قاعة الملك فيصل الثاني بباب المعظم، وأُشير إليها في الصحف المحلية. وعندما بدأت دائرة الآثار العراقية التنقيب في مواقع عقرقوف وتل حرمل في أوائل الأربعينيات، حضر الدكتور كريمر ونشر بحثًا يحتوي على قائمة بالمواقع الجغرافية التي تعود إلى العصور البابلية القديمة، والتي اكتشفت في تل حرمل (تراجع مجلة سومر – المجلد 3، 1947). وفي سياق آخر، شارك في دراسة ونشر كتابات بالمسمارية من تمثال لملك الكشي في عقرقوف، بالتعاون مع الأستاذ طه باقر والأستاذ سليم لاوي (تراجع مجلة سومر – المجلد 4، 1948).

في عام 1956، استقبلت الأوساط الثقافية والتاريخية في العراق بإعجاب إصدار كتاب كريمر (الواح سومر)، الذي قام الأستاذ طه باقر بتعريبه. عُرضت مجموعة من الكتب لمؤلفين وكتّاب أمريكيين للترجمة إلى العربية عندما اختاروا هذا الكتاب. طلب الدكتور كريمر شخصيًا من تلميذه طه باقر ترجمته إلى العربية ونشرته مؤسسة (فرانكلين). يُعتبر هذا الكتاب من المراجع المهمة حول حضارة السومريين.

يتناول الكتاب 25 فصلًا وملحقين، حيث يناقش كل فصل من هذه الفصول والملاحق جانبًا من أولويات الإنتاج الحضاري في العراق القديم، مثل أول مدرسة في التاريخ وأول برلمان ذي مجلسين، وأول الأمثال والأقوال المأثورة، وأول أغنية في الحب.

بالنسبة لنشأته وثقافته، يعود الدكتور كريمر إلى أسرة يهودية روسية أوكرانية، حيث وُلِد في كييف في 28/9/1897. تعرضت أسرته للاضطهاد بسبب الاضطرابات في روسيا القيصرية، مما دفعهم إلى الهجرة إلى الولايات المتحدة عام 1905. استقروا في مدينة بنسلفانيا، حيث أسس والده مدرسة لتعليم اللغة العبرية وعلوم أخرى. بعد التخرج من المدرسة العليا، حصل الشاب كريمر على شهادة البكالوريوس وبدأ بالبحث عن فرص عمل ووظيفة اجتماعية. بعد محاولات مختلفة، عاد إلى تعلم العبرية في مدرسة والده وسعى لتطوير مستقبله بالتحاقه بكلية دروبسي في فيلادلفيا.

يفصل الدكتور كريمر في مذكراته قصة اختياره لتخصصه في دراسات بلاد الرافدين (ميزوبوتاميا) القديمة في جامعة بنسلفانيا. عندما كان في عمر التاسعة عشرة، أُثريت دراسته بموضوع مشوق حول علم المصريات، إلا أن مشاجرة مع أستاذه حرمته من استكمال هذا الموضوع. بعد ذلك، انتقل إلى جامعة بنسلفانيا لدراسة لغات بلاد الرافدين، حيث اختار التخصص تحت إشراف الدكتور إفرايم فيغدور شبايزر، الذي عمل في البعثات الآثارية الأمريكية في العراق. حصل كريمر على درجة الدكتوراه في عام 1929 بأطروحته “الفعل في الواح كركوك”، والتي نشرت في المجلة السنوية للمدارس الأمريكية للأبحاث الشرقية. يتساءل الباحثون عن سبب اختياره لهذا الموضوع اللغوي النحوي الصعب، ويظهر أنه قد ارتبط بأهمية الكتابات القديمة التي عثر عليها الدكتور شبايزر خلال بعثته الآثارية في نوزي القديمة في الفترة من 1925 إلى 1931.

في بدايات الثلاثينيات، شارك الدكتور كريمر كعضو في بعثة آثارية أمريكية مشتركة، تألفت من جامعة بنسلفانيا (متحف الجامعة) والمدارس الأمريكية للأبحاث الشرقية (Asor) وكلية دروبسي، تحت إشراف ورئاسة الأستاذ شبايزر. قامت البعثة بالتنقيب في عدة مواقع أثرية في شمال العراق، حيث تم اختيار كريمر كعضو في هذه البعثة التي قامت بالنقب في موقعين رئيسيين:

  1. تل بيلا (مدينة شيبانيبا القديمة) في عام 1930.
  2. تل فاره (مدينة شروباك القديمة) في عام 1931.

في هذين الموقعين، كان لكريمر مسؤولية قراءة النصوص والكتابات المسمارية التي عُثر عليها خلال عمليات التنقيب. يعود بنا هذا إلى أيام شبابه ودراسته في علم الأشوريات، حيث كان يلاحظ بإعجاب كيف يقوم استاذه شبايزر بفك رموز الكتابات المسمارية التي تعود إلى حوالي 1300 سنة قبل الميلاد. منذ ذلك الحين، انخرط كريمر بشكل كامل في دراسته لقواعد الكتابات المسمارية وأساليبها، رغم تخصصه الأصلي في علم الأشوريات. فاختار الانصراف بشكل كامل إلى مجال علم السومريات (Sumeriology) طوال حياته التي امتدت لتصل إلى 93 عامًا، وأصبح في هذا الميدان فارسًا لا يُشابه، يحظى بثقة كبيرة بين علماء المسماريات ويُشار إليه بالبنان.

قضى الدكتور كريمر وقتاً طويلاً استكشافًا أطلال المدن القديمة في العراق. عند عودته إلى وطنه، أصبح أستاذًا وباحثًا، يتنقل بين المعاهد والجامعات الأمريكية. في بداية الخمسينيات، حصل على زمالة دراسية من مؤسسة غوغنهايم للسفر إلى تركيا لدراسة مجموعات الرقم الطين والألواح المسمارية في متحف الشرق القديم في اسطنبول.

وفي هذه المهمة العلمية، وُفِّق كريمر في اكتشاف ودراسة وثائق ونصوص أدبية وتاريخية وقانونية هامة. من بين هذه الاكتشافات كان عام 1952 حين عثر على شريعة الملك (أور-نمو)، مؤسس سلالة أور الثالثة، وغيرها من الملاحم والأساطير السومرية.

عاد إلى جامعة بنسلفانيا حيث عين استاذًا في إحدى الكليات، ثم تم تعيينه استاذًا في مؤسسة كلارك لعلم الأشوريات عام 1948. بلغت مرحلة التقاعد عندما بلغ السبعين عام 1968، ومع ذلك، استمر في ترجمة النصوص المسمارية وتأليف الكتب، وعمل بجد على إعداد “المعجم الآشوري” بالتعاون مع كيلب وياكوبسون. في 26 سبتمبر 1990، توفي الدكتور كريمر في منزله بسبب سرطان الحنجرة، حافظًا على إرثه الثري في مجال دراسة السومريات.

الدكتور صموئيل نوح كريمر، الشهير بإسهاماته في مجال السومريات، ترك وراءه إرثًا علميًا غنيًا يتألف من حوالي 30 كتابًا ومقالة. في مؤلفاته، رسم صورة حية للسومريين، يبرزهم كشعب متحضر يعيشون حياةً نابضة بالنشاط والعواطف. تسلط أعماله الضوء على جوانب اقتصادية واجتماعية، مظهرًا إياهم كمجتمع يعمل ويتفاعل في قضايا الحياة اليومية، مع التركيز على قضايا مثل دفع الضرائب.

أما في مذكراته، التي نشرت عام 1986 تحت عنوان “في عالم بلاد سومر”، فقد جمع كريمر حوادث وتجارب من مسيرته الحياتية والعلمية. يتناول ثلاثة محاور رئيسية: الدور البارز الذي قام به في كشف الآثار وترميمها، والتأكيد على أهمية هذه المرحلة في حياته. ثم يبرز إسهاماته في نقل المعلومات والوثائق إلى المؤسسات الأكاديمية المعنية بالدراسات الأنثروبولوجية والآثارية والعلوم الإنسانية.

الدكتور صموئيل نوح كريمر، الذي كرس حياته للكشف عن آثار السومريين وتسليط الضوء على إرثهم، يفخر بعمله الجاد في نشر معرفته حول “سومر” و”السومريين” على مستوى واسع في العالم. كما قام بتوضيح الدور الرائع الذي قدمه السومريون للحضارة الإنسانية. يُقدم في مذكراته وشهادات زملائه العلمية والآثارية، حيث يصفه الدكتور آقه شيوبيرغ بأنه الشخص الذي أعاد الحياة إلى الآداب السومرية، ويعتبره علماء المسماريات القلائل الرائدين.

تحدث الدكتور توركيلد باكوبسن عن كريمر بأنه “رائد في المجال الآثاري المميز”، بينما وصفه الدكتور أندريه بارو بأنه يسعى دائمًا لاكتشاف الجديد والمثير في الآثار والنوادر. يُسلط الضوء على إسهاماته البارزة، مثل اكتشافه لقائمة في نيبور ولوح في متحف اللوفر بباريس، ويؤكد أن كريمر كان له الدور الريادي في إقامة وتنظيم وإدارة المكتبات في عصور قديمة.

يشغل كريمر مواقع علمية وثقافية واجتماعية مرموقة، منها أمين متحف الجامعة في جامعة بنسلفانيا وعضو في معهد الآثار الأمريكي والعديد من الجمعيات العلمية المرموقة.

في مناسبة عيد ميلاده التسعين، أُقيم حفل تكريمي وندوة بعنوان “التاريخ يبدأ من سور” من قِبل أمانة متحف الجامعة بجامعة بنسلفانيا، بحضور علماء السومريات من مختلف أنحاء العالم. حصل الدكتور كريمر على جوائز تقديرية عديدة، بما في ذلك جائزة “جون فريدريك لويس” من الجمعية الفلسفية الأمريكية، إضافة إلى العديد من الجوائز الأخرى من مؤسسات علمية وثقافية.

تاركًا وراءه زوجته السابقة وطفلين، دانيل وجوديت، رحل الدكتور كريمر في 26 نوفمبر 1990، مخلفًا إرثًا مشرقًا في تاريخ حضارة وادي الرافدين. تذكيرًا بإسهاماته، قدّم الأستاذ سالم الألوسي بعض مقالاته من أعلام الآثاريين في العراق للنشر.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *