يمكن القول إن “الحلاقة” تعد واحدة من أقدم المهن التي امتهنها الإنسان. يظل الإنسان اليوم قادرًا على التخلي عن بعض الاحتياجات، وقد يقاطع بعض الأطعمة، ولكنه لا يمكنه الاستغناء عن زيارة الحلاق الذي يهتم بتصفيف شعره وحلاقة لحيته أو ترتيب شاربيه. ورغم توفر ماكنات الحلاقة اليدوية والكهربائية، إلا أن لمسات الحلاق ما زالت ضرورية، خاصةً لرعاية رؤوس الفلاسفة الذين يُفضلون الاهتمام برؤوسهم بشكل خاص!
إنها مهنة صعبة! عند النظر إلى العصور القديمة والأدوات البدائية التي استخدمها الناس في فن الحلاقة، يظهر وضوحًا صعوبة مهنة حلق الرؤوس واللحى في تلك الأزمان البعيدة. حتى في القرن التاسع عشر، كانت الحلاقة تتم بصعوبة شديدة، حيث كان الشخص الذي يجلس لحلاقة رأسه يتعرض للجروح التي تنزف الدماء وتنتشر في وجهه ورأسه.
وفي زمننا الحالي، وعندما نشاهد الحلاقين في صالوناتهم الحديثة، نرى كيف يقومون بحلاقة رؤوس الزبائن بكل يسر وسهولة. ومع ذلك، كانت الحلاقة في الأزمنة القديمة تشبه إلى حد كبير الجراحة، حيث لم تكن تتم إلا بعد مشقة كبيرة.
في الماضي، كان لكل محلة حلاقة خاص بها، وكان الحلاق يكون من سكان تلك المحلة. وكانت الدكاكين التي كانوا يعملون فيها بسيطة للغاية، حيث تكون تلك الأماكن مجهزة بأدوات الحلاقة البسيطة والضروريات، مع وجود مرآة وكرسي ومقعد للزبائن.
كانت هناك فئة من الحلاقين الذين اختاروا العمل كحلاقين متجولين، حيث لم يكن لديهم دكان ثابت، بل كانوا يتجولون في الأزقة والشوارع والأسواق. كانوا يحملون أدوات الحلاقة على بطونهم، ملتصقة بأحزمهم، أو يضعونها في حقائب صغيرة يحملونها بيديهم، بالإضافة إلى مقاعد صغيرة يمكن طيها وحملها باليد.
في إحدى المحلتين، كان أحد هؤلاء الحلاقين يُعرف باسم “جرمط”، وكان هناك دكان آخر قريب من المحلة يديره “الحلاق حوكي”. كنت زبونًا لهذا الحلاق في طفولتي، وكان يتميز بأنه لا يقتصر على خدمات الحلاقة فقط بل كان يمارس فن “الحجامة”. وقد كان يثير فضولي أيضًا، حيث لا أعلم ما إذا كان يقدم “خدمات طبية” إضافية مثل “حوكي” أم لا.
في ذلك الزمن، كان “حكومي الحلاق” ومن جيرتهم كحلاقين آخرين يمارسون الحلاقة وخدمات أخرى. كان يقوم بختان الأطفال وعلاج بعض الأمراض، وكان يحصل على الأدوية من العطارين في الجوار أو من زملائهم في “سوق الشورجة”. تتألف معظم هذه الأدوية من النباتات والأعشاب.
وكان “حوكي” ومن مثله من الحلاقين يتجاوزون دورهم التقليدي في الحلاقة وختان الأطفال، حيث كانوا يقدمون خدمات الحجامة أيضًا. ولم يكن يعتبرون أنفسهم مقتصرين على ذلك، بل كانوا يمارسون مهنًا أخرى مثل استخراج الأسنان، حيث كانوا يقومون بنزع الأسنان المؤلمة باستخدام “الكلابتين”.
بعد تحول الحياة في “منطقة الميدان” بفعل تبليط شارع الرشيد وتحركات النظام، ظهرت العديد من الدكاكين الحديثة للحلاقة والمخازن. كان صالون عزت وصالون ياس من بين أشهر الحلاقين في هذه المنطقة، حيث كان يقصدهما العديد من رجال الدولة لحلق رؤوسهم ولحاهم. كان لديهما زبائن بارزين من العسكريين والمدنيين الذين تركوا بصماتهم في التاريخ بفعل مشاركتهم في الوزارات السابقة أو الحركات السياسية.
عاش محل “عزت وياس” بتواريث من تعلموا منهما، حيث استمر بالعمل محمد مكي حتى اعتزل لأسباب صحية. خلفه عبد الله نصيف، وكلاهما كانا من بين أشهر حلاقي الميدان. في نفس المنطقة، كان الحلاق كريم عباس يقوم بحلاقة رأس الملك فيصل الثاني.
في ذلك الوقت، لم تكن صالونات الحلاقة النسائية شائعة، وظهرت بداية في “منطقة السنك” بفضل بعض الفنادق المشهورة مثل “زيا وسمير اميس وريجنت بالاس”. ومع تواجد نساء إنكليزيات يعملن في بغداد وبعض الممثلات الأجنبيات اللاتي كن يحتاجن إلى حلاقة شعورهن، تم فتح بعض صالونات الحلاقة النسائية. مع مرور الوقت، تحولت هذه الصالونات لتكون متخصصة أكثر في خدمات التجميل بدلًا من قص الشعر، وأصبحت تحظى بشعبية بين النساء العراقيات، مما جعلها تزيد في عددها وتتطور لتكون مراكز تجميل أنيقة ونظيفة في معظم مدننا.