التنمر مشكلة كبرى تعاني منها مختلف المجتمعات في شتى أنحاء العالم، وهو يأتي بصيغ وأشكال متعددة وفي مراحل عمرية مختلفة، ولعل أخطرها هو التنمر في المدارس وأثناء مرحلة الطفولة لما له من أثار صحية عميقة قد تستمر إلى مراحل متقدمة من الحياة.
وفي دراسة نشرها “المركز الوطني للوقاية من التنمر” (National Bullying Prevention Center) في الولايات المتحدة، تبين أن واحدا من كل 5 طلاب في أميركا يتعرضون للتنمر أثناء الدراسة بما نسبته 20.2%.
وأي شخص وقع ضحية للتنمر في طفولته سوف يفهم مشاعر الخزي والشعور بالدونية وعدم الثقة بالنفس التي يمكن أن تجلبها هذه الأنواع من التجارب القاسية. والعواقب لا تتوقف عند هذا الحد، حيث تشير الأبحاث والدراسات العلمية الحديثة إلى أن آثار التنمر في مرحلة الطفولة يمكن أن تستمر لعقود طويلة، وتحدث تغيرات طويلة الأمد يمكن أن تعرضنا لخطر الإصابة بالأمراض العقلية والجسدية.
وتقود هذه النتائج عددا متزايدا من التربويين إلى تغيير وجهات نظرهم حول التنمر، من شيء لا مفر منه في مرحلة النمو إلى اعتباره نوعا من أنواع انتهاك حقوق الإنسان للأطفال.
وتوضح لويز أرسينولت أستاذة علم النفس التنموي في “كينغز كوليج” بلندن في المملكة المتحدة: “اعتاد الناس على الاعتقاد بأن التنمر سلوك طبيعي، وكانوا يعتقدون أنه في بعض الحالات يمكن أن يكون شيئا جيدا لأنه يبني الشخصية.. لقد استغرق الأمر وقتا طويلا حتى بدأ الباحثون في اعتبار التنمر أمرا ضارا حقا”، وذلك في تصريحاتها لمنصة “بي بي سي” (BBC) مؤخرا، وردت ضمن تقرير أعده الكاتب والباحث البريطاني ديفيد روبسون عن الموضوع.
ومع هذا التغيير في طريقة التفكير، يختبر العديد من الباحثين الآن مخططات مختلفة لمكافحة التنمر مع بعض الإستراتيجيات الجديدة المثيرة لخلق بيئة مدرسية أكثر لطفا.
يمكن أن يكون هناك القليل من الشك في أن التنمر يمثل خطرا جسيما على الصحة العقلية للأطفال على المدى القصير، حيث تتمثل أبرز عواقبه في زيادة القلق والاكتئاب والتفكير بطريقة غير منطقية. وفي حين أن بعض هذه الأعراض قد تختفي بشكل طبيعي بعد توقف التنمر، فلا يزال العديد من الضحايا يعانون من مخاطر أعلى للإصابة بأمراض عقلية خطيرة في المستقبل.
ووفقا لورقة بحثية نُشرت مؤخرا في مجلة ” هارفارد للطب النفسي” (Harvard Review of Psychiatry)، فإن المرأة التي تعرضت للتنمر عندما كانت طفلة تزيد احتمالية إصابتها باضطراب الهلع في سن الشباب بمقدار 27 مرة، أما عند الرجال فقد أدى التنمر في مرحلة الطفولة إلى زيادة قدرها 18 ضعفا في التفكير بالانتحار. وتقول أرسينولت: “وجدنا كل هذه الارتباطات القوية والمتكررة عبر عينات مختلفة”.
وللتنمر أيضا عواقب طويلة الأمد على الحياة الاجتماعية للناس، حيث يجد العديد من الضحايا صعوبة في تكوين صداقات حقيقية في وقت لاحق من الحياة، ويقل احتمال العيش مع شريك لمدة طويلة، ولهذا تكثر حالات الطلاق بين الضحايا، وأحد الاحتمالات التي تفسر هذا هو أنهم يكافحون من أجل الثقة في الناس من حولهم. وفي هذا السياق تقول أرسينولت: “الأطفال الذين تعرضوا للتنمر، قد يفسرون العلاقات الاجتماعية بطريقة خاطئة تهدد مستقبلهم”.
وأخيرا، هناك التكاليف الأكاديمية والاقتصادية، حيث يضرّ التنمر بمعدل العلامات التي يحصل عليها الضحايا في المدرسة مما يؤثر على تحصيلهم العلمي، وهو الأمر الذي يقلل بدوره من فرص عملهم في المستقبل، وهو ما يعني أنهم سيكونون أكثر عرضة لتجربة عدم الاستقرار المالي والبطالة في سن الرشد.
وتشير أبحاث أرسينولت إلى أن الإجهاد الناتج عن التنمر يمكن أن يؤثر سلبا على الجسم لعقود بعد الحدث، فمن خلال تحليل البيانات من دراسة زمنية طويلة الأمد استمرت 50 عاما، وجدت أن التنمر المتكرر بين سن 7 أعوام و11 عاما مرتبط بمستويات أعلى من الإصابة بالالتهابات المختلفة والسمنة في سن 45 عاما.
والأهم من ذلك، أن هذا السبب بقي حتى بعد أن استطاعت السيطرة على عوامل أخرى مثل النظام الغذائي والنشاط البدني والتدخين، حيث بقيت إمكانية الإصابة بالالتهابات مرتفعة إلى درجة تهديد جهاز المناعة لديهم، ذلك لأن الالتهاب المرتفع والمتكرر يساهم في تآكل أعضاء الجسم، مما يؤدي إلى حالات مرضية خطيرة مثل مرض السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية.
وتشير هذه النتائج مجتمعة إلى أن محاولات القضاء على التنمر ليست مجرد واجب أخلاقي للتخفيف من معاناة الأطفال الفورية، ولكنها ستعود بفوائد طويلة الأمد على صحة السكان ككل.
وعند هذه النقطة، يستعرض الكاتب ديفيد روبسون تجربته مع التنمر فيقول: “عندما كنت في المدرسة بالمملكة المتحدة في التسعينيات وأوائل القرن 21، لم تكن هناك حملات منهجية لمعالجة مشكلة التنمر الأوسع نطاقا.. كان المعلمون يعاقبون سلوكيات معينة إذا تمت ملاحظتها، ولكن المسؤولية كانت تقع على عاتق الطالب للإبلاغ عن المشكلة، مما يعني أنه تم تجاهل العديد من الحالات”.
كما أن بعض المعلمين كانوا يؤيدون ضمنيا التنمر من خلال غض الطرف عن القضايا الواضحة التي كانت تجري أمام أعينهم، وهناك معلمون آخرون -وهم أقلية نادرة ولكنها مؤذية- وقفوا بقوة مع المتنمرين، بحسب روبسون.
كما كانت بعض المدارس تتسامح مع أنواع معينة من التنمر لأنها تعكس تحيزات اجتماعية أوسع. وعلى سبيل المثال، أبلغت نسبة كبيرة من أطفال الأمهات المتهمات قضائيا أو اجتماعيا -في دراسة طولية- عن المضايقة أو التنمر بسبب عائلتهم، كما أن من المرجّح أن يتعرض الكثير من طلاب الأقليات العرقية للتنمر وتغض مدارسهم النظر عن هذا السلوك، كما أوضح الكاتب.
ولحسن الحظ، يمكن أن توفر الأبحاث العلمية الجارية الآن بعض إستراتيجيات مكافحة التنمر التي أثبتت جدواها.
يُعد برنامج “أولويوس لمنع التنمر” (The Olweus Bullying Prevention) أحد أكثر البرامج التي تم اختبارها على نطاق واسع، وقد تم تطويره من قبل عالم النفس السويدي النرويجي الراحل دان أولويوس الذي قاد الكثير من الأبحاث الأكاديمية المبكرة حول إيذاء الأطفال.
ويعتمد البرنامج على فكرة أن الحالات الفردية للتنمر غالبا ما تكون نتاج ثقافة أوسع تتسامح مع الإيذاء، ونتيجة لذلك، يحاول معالجة النظام البيئي للمدرسة كاملا حتى لا يزدهر هذا السلوك السيئ فيه.
مثل العديد من طرق العلاج، يبدأ برنامج أولويوس بإدراك المشكلة وفهمها، ولهذا السبب يجب على المدارس إجراء مسح لطرح أسئلة على الطلاب حول تجاربهم.
تقول سوزان ليمبر أستاذة علم النفس التنموي بجامعة كليمسون في كارولينا الجنوبية: “إن معرفة ما يجري في المبنى الخاص بك أمر مهم حقا، ويمكن أن يوجه جهودك لمنع التنمر”.
كما يشجع برنامج أولويوس المدرسة على تحديد توقعات واضحة جدا للسلوك المقبول، والعواقب التي ستتخذ إذا خالفت تلك القواعد. وهنا تقول ليمبر: “لا ينبغي أن تكون العقوبات مفاجأة للطفل”، ويجب على البالغين أن يكونوا قدوة إيجابية تعزز السلوكيات الجيدة ولا تتسامح مطلقا مع أي شكل من أشكال الإيذاء، كما يجب أن يتعلموا أيضا التعرف على المواقع داخل المدرسة حيث من المرجح أن يحدث التنمر، والإشراف عليها بانتظام.
وتوضح ليمبر: “يحتاج كل شخص بالغ في المدرسة إلى بعض التدريب الأساسي حول التنمر، مثل الأشخاص الذين يعملون في الكافتيريا، وسائقي الحافلات، والمشرفين”.
أما على مستوى الفصل الدراسي، فيجب أن يعقد الأطفال أنفسهم اجتماعات لمناقشة طبيعة التنمر، والطرق التي يمكنهم من خلالها مساعدة الطلاب الضحايا، والهدف من كل هذا هو التأكد من أن تكون رسالة مكافحة البلطجة مترسخة في ثقافة المؤسسة.
اختبرت ليمبر هذا البرنامج في أماكن مختلفة ضمت أكثر من 200 مدرسة في ولاية بنسلفانيا الأميركية، وتشير النتائج إلى أن البرنامج أدى إلى انخفاض حالات التنمر بشكل كبير وصل إلى ألفي حالة تنمر أقل مما كان سائدا على مدى عامين. والأهم من ذلك، أن الباحثين رأوا أيضا تغييرات في الموقف العام لطلاب المدارس تجاه التنمر، بما في ذلك زيادة التعاطف مع الضحايا.
وأخيرا، نادرا ما يكون النمو سهلا، فالأطفال والمراهقون يتعرضون للتعامل مع أقران من بيئات اجتماعية مختلفة، ولكننا كبالغين بإمكاننا تعليم الأطفال أن هناك أنواعا معينة من السلوكيات والتصرفات غير مقبولة أبدا، وفي جميع الأحوال علينا ألا نلوم أحدا سوى المتنمرين أنفسهم، لا الضحايا، ويمكن أن يكون لكل هذا تأثير واسع النطاق على صحة وسعادة العديد من الأجيال القادمة.