الباحث والموسيقى العراقي حسقيل فوجمان:ذكريات عن المقام العراقي واوائل القراء والعازفين

الباحث والموسيقى العراقي حسقيل فوجمان:ذكريات عن المقام العراقي واوائل القراء والعازفين

حوار مع حسقيل فوجمان يكشف عن فترة من تاريخ الموسيقى في العراق، فهو لا يقدم فقط جوانب ممتعة وطرافة ولكنه يسلط الضوء على أحداث وشخصيات ومواقع في حواري بغداد. يعتبر فوجمان، المولود في بغداد عام 1921، مؤرخًا وباحثًا في الموسيقى العراقية، ويحمل درجة الماجستير إلى جانب مهاراته كعازف ومؤلف موسيقي. أثناء لقائنا به في لندن، حيث يقيم حاليًا، كشف لنا عن تفاصيل حول تطور الموسيقى العراقية وتميزها بعناصرها الفريدة، مثل “الجالغي” والمقام العراقي، في بداية القرن الحالي، مقارنة بالموسيقى المصرية.

تكوين فرقة الجالغي في بغداد يعتمد على مجموعة متنوعة من العناصر، مثل قارئ المقام وعازفي التريتين (السنطور والجوزة)، إلى جانب الايقاع. ومن بين القراء البارعين في هذا الفن، ذكرت تفاصيل عن أحمد زيدان، المتوفي في عام 1912، والذي كان مؤذنًا وقارئًا للقرآن الكريم، وقد سُجل صوته على أسطوانة شمعية، وهي واحدة من أول وسائل تسجيل الأصوات. يعود تأثيره في تعلم المقام إلى نسيم بصون، عازف جوزة مشهور، الذي كان مندمجًا بشكل كبير مع أداء زيدان.

في بغداد خلال فترة العشرينات والثلاثينات، كانت هناك فرقتان مشهورتان للجالغي: فرقة بصون وفرقة بتو. كانت هاتان الفرقتان تجتمعان في مقهى بمنطقة الحيدرخانة في انتظار الدعوات للأعراس والمناسبات. كان بإمكان صاحب الدعوة اختيار المغني الذي يصاحب الفرقة. كانت الفرق تحقق إقبالًا كبيرًا خاصة في شهر رمضان، حيث تستمر الوصلة الغنائية حتى الصباح، وتُعرف باسم “الصباحية”.

أما المقام العراقي، فيعتبر ريبرتوار موسيقي ثابت يتألف من حوالي ست وتسعين قطعة غنائية أو مقامًا، وتظل ثابتة وغير قابلة للتغيير. يضم المقام العراقي أسماء ملحنين معروفين، ومن بينهم محمد القبانجي الذي أضاف خمسة مقامات جديدة: الحجاز وطاركرد والنهاوند واللامي والقطر والعجم.

يعتبر المقام العراقي عبارة عن ريبرتوار موسيقي يُغنى كما وضعه ملحنه الأصلي، ويُنقله المغنون ويتعلمونه بنفس الطريقة. عندما نشير إلى “مقام رست”، على سبيل المثال، نعني شيئًا محددًا، مشابهًا للإشارة إلى السمفونية التاسعة لبيتهوفن، التي يجب أداؤها بالشكل الأصلي. على الرغم من تناقل المقام شفهيًا، إلا أن هناك سوء فهم حول مفهوم كلمة “مقام” في بعض البلدان العربية حيث تُستخدم ككلمة بديلة لـ “نغم”. ومع ذلك، في العراق، تحمل الكلمة معنى محددًا كما تم ذكره، والمقامات مثل الصبا أو الحجاز لا تُغنى خارج العراق بأسلوب مختلف ولا داخله.

فيما يخص المؤتمر الموسيقي في القاهرة عام 1932، قام العراق بإرسال فرقة مقامات جالغي إلى المؤتمر، وكانت تتألف من القارئ محمد القبنجي وعازفي الجالغي التقليديين بالإضافة إلى عازف قانون أُضيف لزيادة عدد أعضاء الفرقة. كان عازف العود ليس له دور رئيسي في الأداء، إلا أنه تكلف بمهمة إدارة البأس في الفرقة، والتي كان أعضاؤها يرتدون ملابس شعبية. طُلب من عازف العود تغيير ملابس الوفد ومراقبة تنفيذ ذلك في القاهرة، وقد كان ذلك بطلب من نوري السعيد، رئيس الوزراء العراقي آنذاك، حيث قام عازف العود، المعروف بلقب “أفندي”، بارتداء البنطلون والقميص والجاكيت مع ربطة العنق وسدارة.

في مؤتمر القاهرة، سُمع لأول مرة المقام العراقي الذي أبهر المستمعين العرب والجمهور والمستشرقين، وحاز على الجائزة الأولى. يعتاد المقام العراقي عادة أن يُغنى مع قصيدة أو موال عراقي يُسمى “زهيري”. يتألف المقام من ثلاثة أقسام، حيث يُدعى القسم الأول بالتحرير أو المقدمة ويُؤدى بدون قصيدة أو زهيري، ويتميز بكلمات صوتية خاصة به. ثم ينتقل المغني ليغني القصيدة أو الزهيري، ويأتي القسم الثالث الذي هو التسليم ويشبه القسم الأول حيث يُغنى بكلمات خاصة.

كان المقام مصدر متعة للطبقة الغنية والكبار في المجتمع قبل انتشار الأسطوانة وظهور الإذاعة. كما كان للناس العاديين فرصة استمتاعهم بالمقام، ولكن بشكل أقل بالطبع. في ذلك الوقت، كان المقام يحظى بشعبية خاصة بين الطبقة الاجتماعية الراقية، وكانوا يستأجرون الفرق ويحضرون الحفلات. كانت فرص الاستمتاع بالمقام أقل للطبقات الأخرى قبل انتشار الأسطوانة وظهور الإذاعة. ورغم وجود قراء ممتازين للمقام في تلك الحقبة، فإن نقص الموسيقيين والعازفين كان واضحًا، حيث لم يتم تشجيع الناس على تعلم العزف قبل انتشار الأسطوانة.

كان الغناء الشعبي حاضرًا كما هو الآن، حيث كان هناك مطربون كثيرون في الريف يتداولون أغانيهم في المضايف والمقاهي والبيوت، خاصةً بابتعادهم عن بغداد. كان المقام منتشرًا في بغداد وبقية المدن والريف. بعد ذلك، ظهر نوع آخر من الموسيقى بوصول صالح وداود الكويتي إلى بغداد، حيث ظهرت مغنيات يؤدين ألحانًا غير الغناء الريفي وغير المقامي. انتشرت في مختلف أنحاء العراق فرق غناء نسائية تُدعى “الدقاقات” أو “الملايات”، تتكون من عازفة نقارة وضاربات دف ومغنية.

ظهرت المغنيات مثل سلطانة ابراهيم وسليمة مراد ونظيمة ابراهيم، وأصبحت هذه الفرق تحيي المناسبات مثل ليلة الحنة والأعراس. كما انتشرت فرق الغناء النسائية باسم “الدقاقات” أو “الملايات”، حيث تتألف من عازفة نقارة وثلاث ضاربات دف ومغنية. هذه الفرق كانت تحظى بشعبية خاصة في المناسبات التي كانت مختصة للنساء، وقد كانت تعزف وتغني في هذه المناسبات بمهارة عالية.

في نهاية العشرينات، شهدت بغداد ظهور الملاهي وأصبح الغناء جزءًا من الحياة الليلية بانتظام. مع تكرار غناء المقامات وصعوبتها وتطلب الأصوات المتنوعة، ظهرت ألحان جديدة أسرع وأسهل، حيث أسس يوسف زعرور فرقة في مقهى في ساحة الميدان، تعزف موسيقى مختلفة غير المقامات.

بدأت عائلة زعرور، بالإضافة إلى صالح الكويتي وأخيه داود، بوضع ألحان الغناء الجديد. بدأت مرحلة التعاقد مع مطربين عرب للغناء في بغداد، حيث وصلت أم كلثوم أولًا في عام 1932، وبعدها جاؤوا مثل رجاء عبده ونرجس شوقي.

تأسست الإذاعة ومعها معهد الفنون الجميلة في عام 1936، حيث انضم أشهر مغني المقام لتقديم وصلاتهم على الهواء مباشرة. كانت هناك مشاركة فعّالة من الموسيقيين والمغنين مثل سليم شبل وحسن خيوكه والقبنجي ويوسف عمر وغيرهم. بدأ الخريجون الأوائل من معهد الفنون الجميلة مثل منير بشير وجميل بشير وسلمان شكر بالانضمام إلى الساحة الموسيقية، مما أثرى المشهد الفني في بغداد.

رغم أن ظهور الإذاعة كان السبب الرئيسي في نهضة الموسيقى في العراق، حيث شجعت المواهب على العمل الموسيقي المنظم وتوفير دخل ثابت، وأدت إلى انتشار واسع للأغاني والموسيقى، إلا أنني لا أعتبر عام 1936 بداية ظهور الموسيقى الجديدة. إذ سبقتها مبادرات منظمة أخرى، وعلى يدي صالح وداود الكويتي، حيث أسسوا دارًا لتعليم العود بالقرب من جامع مرجان في بغداد. وكان العازف الحلبي يوسف حبيب صفا قد أسس مدرسة لتعليم العزف على العود قبل ظهور الإذاعة.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *