سـمـعـت عـنـدمـا كـنـت صـبـيـاً أنّ رأس أسـد بـابـل الـصّـخـري حـطّـمـه الـمـنـقّـبـون الألـمـان بـحـثـاً عـن الـذّهـب الّـذي ظـنّـوا أنّـه كـان يـحـتـويـه، ثـمّ أكّـد لـنـا مـدرس الـتّـاريـخ في الـسّـنـة الـخـامـسـة الـثّـانـويـة ذلـك بـإسـهـاب وبـتـفـاصـيـل دقـيـقـة، فـسـلّـمـت بـالأمـر واعـتـبـرتـه مـن الـحـقـائـق الـتّـاريـخـيـة الّـتي لا تـقـبـل الـمـنـاقـشـة.
وقـد نـقـلـتـه أنـا نـفـسي بـعـد ذلـك إلى تـلامـيـذي عـنـدمـا بـدأت أدرّس.ومـا أشـدّ مـا كـانـت دهـشـتي عـنـدمـا اكـتـشـفـت بـعـد ذلـك أنـني تـعـلّـمـت اخـتـلاقـات لا صـحـة لـهـا، وأنّ رأس أسـد بـابـل كـان قـد تـحـطّـم قـبـل أكـثـر مـن قـرن مـن بـدء الـتّـنـقـيـبـات الألـمـانـيـة في بـابـل .
نـجـد أوّل ذكـر لأسـد ضـخـم الـحـجـم نـحـت في صـخـر الـغـرانـيـت وعـثـر عـلـيـه في مـوقـع مـديـنـة بـابـل الـقـديـمـة في مـقـال نـشـره الـفـرنـسي جـوزيـف دو بـوشـام Joseph de Beauchamp عـام 1790 في جـريـدة الـعـلـمـاء Journal des Savants في بـاريـس. وكـان بـعـض أهـل الـحـلّـة قـد ذكـروا لـه أنـهـم كـانـوا قـد وجـدوا صـنـمـاً مـدفـونـاً في بـاطـن الأرض. وبـعـد أن أخـذوه إلى الـمـكـان وحـفـروه لـه مـيّـز في أعـمـاق الـحـفـرة تـمـثـال أسـد.
وكـتـب الـبـريـطـاني كـلـوديـوس جـيـمـس ريـتـش Claudius James RICH الّـذي تـعـودنـا عـلى تـسـمـيـتـه بـكـلـوديـوس جـيـم ريـج عـام 1817 سـرد رحـلـتـه الـثّـانـيـة الّـتي كـان قـد قـام بـهـا قـبـل ذلـك واسـتـطـلـع خـلالـهـا مـوقـع بـابـل. ونـشـر الـنّـص في لـنـدن في الـعـام الـتّـالي 1818 تـحـت عـنـوان : Memoir on the Ruins of Babylon, Volume 2
ويـذكـر كـلـوديـوس جـيـمـس ريـتـش في ص. 24 مـن كـتـابـه :
“واكـتـشـفـت مـا لـم يـسـتـطـع بـوشـام أن يـراه بـوضـوح، وفـهـم مـن أهـل الـبـلـد أنّـه صـنـم. وأخـبـروني بـنـفـس الـشّئ، وأنّ رجـلاً عـجـوزاً مـن الـعـرب عـثـر عـلـيـه عـنـدمـا كـان يـحـفـر. وبـعـد أن رآه دفـنـه مـن جـديـد.
وبـعـثـت مـن يـأتي لي بـهـذا الـرّجـل الّـذي أراني الـمـكـان. واكـتـريـت عـدداً مـن الـرّجـال لـيـحـفـروه. وبـعـد أن جـهـدوا في عـمـلـهـم يـومـاً كـامـلاً أزاحـوا مـا يـكـفي مـن الـتّـراب، ورأيـنـا أسـداً هـائـل الـحـجـم عـلى قـاعـدة، مـنـحـوتـاً في نـوع سئ مـن الـغـرانـيـت الـرّمـادي بـصـنـعـة رديـئـة. وكـانـت في فـمـه فـتـحـة دائـريـة يـمـكـن لـلـمـرء أن يـدخـل فـيـهـا قـبـضـتـه”.
وقـد رآه الـكـابـتـن الـبـريـطـاني جـورج كـيـبـل Captain George Keppel عـام 1824. وقـد فـصّـل في وصـف ذلـك في كـتـابـه الّـذي نـشـره في فـيـلادلـفـيـا عـام 1827 (ص. 122). وبـعـد أن تـكـلّـم عـن شـجـرة وسـط الـخـرائـب، كـتـب : “وقـرب هـذه الـشّـجـرة، رأيـنـا آثـاراً لـتـمـثـال كـان قـد أبـصـر بـه بـوشـام وريـتـش Beauchamp and Rich ، ولـكـنّـهـمـا لـم يـتـمـعـنـا الـنّـظـر إلـيـه عـن كـثـب Had been imperfectly seen. وطـلـبـنـا مـن رجـالـنـا الـبـدء في الـحـفـر. وبـعـد سـاعـتـيـن، وجـدوا مـنـحـوتـة هـائـلـة الـحـجـم مـن رخـام أسـود تـمـثّـل أسـداً جـاثـمـاً عـلى رجـل. وكـان الـتّـمـثـال مـكـتـمـلاً عـنـدمـا رآه ريـتـش، ولـكّـنـه تـحـطّـم الآن. وطـول الـقـاعـدة مـثـل ارتـفـاع الـتّـمـثـال وعـرضـه مـقـايـيـسـهـا تـسـعـة أقـدام.
“وربّـمـا اسـتـطـعـت اقـتـراح تـفـسـيـر، فـربّـمـا كـان هـذا يـمـثـل دانـيـال في جُـبّ الأسـود وأنّ هـذا الـتّـمـثـال كـان مـنـتـصـبـاً أمـام بـوابـة الـقـصـر أو أمـام الـجـنـائـن الـمـعـلّـقـة. فـمـن الـطّـبـيـعي أن نـتـصـور أن مـعـجـزة مـثـل تـلـك الـمـعـجـزة لا يـمـكـن إلّا أن يـحـتـفـل بـهـا الـبـابـلـيـون خـاصـة وأنّ دانـيـال أصـبـح بـعـدهـا حـاكـم الـمـديـنـة”.
ومـن هـذا نـرى أنّ رأس الأسـد تـحـطّـم بـيـن عـامي 1817، الّـذي رآه فـيـه ريـتـش كـامـلاً، و 1824 الّـذي رآه فـيـه كـيـبـل مـحـطّـمـاً. كـمـا نـلاحـظ أنّ كـيـبـل كـان يـعـتـبـر الأسـاطـيـر الـتّـوراتـيـة حـقـائـق تـاريـخـيـة.
وذكـر روبـرت مـيـنـيـان Robert Mignan في ص. 186 مـن كـتـابـه “سـفـرات في بـلاد الـكـلـدان Travels in Chaldea” الـذي نـشـر في لـنـدن عـام 1829، أنّـه رأى، عـنـدمـا زار بـابـل في 1827 : “أسـداً مـطـروحـاً عـلى جـانـبـه الأيـمـن، وتـحـتـه رجـل سـاجـد prostrate، عـلى قـاعـدة طـولـهـا تـسـعـة أقـدام 9 feet، وعـرضـهـا ثـلاثـة أقـدام، مـنـحـوت في صـخـر الـغـرانـيـت. والـتّـمـثـال وقـاعـدتـه مـنـحـوتـان بـأسـلـوب شـديـد الـبـدائـيـة very barbarous. وقـد حـطّـم الـنّـاس رأسـه مـنـذ فـتـرة قـصـيـرة، دفـعـهـم لـذلـك عـنـف هـمـجي. فـقـد رأى مـسـتـر ريـتـش Mr. Rich الأسـد مـكـتـمـلاً عـنـدمـا زار بـابـل. ولاحـظ أنّـه كـان في فـمـه فـتـحـة دائـريـة واسـعـة يـمـكـن لـلـمـرء أن يـدخـل فـيـهـا قـبـضـتـه”.
وقـد وصـل الـبـريـطـاني أوسـتـن هـنـري لَـيـارد Austen Henry Layard إلى بـابـل في عـام 1850 لـيـقـوم فـيـهـا بـبـعـض الـحـفـريـات الأثـريـة. وكـان قـد نـقّـب في بـلاد آشـور مـنـذ عـام 1845. وقـد رأى لَـيـارد أسـد بـابـل وكـتـب عـنـه :
“والأسـد الّـذي وصـفـه ريـتـش Rich مـا زال مـدفـونـاً إلى نـصـفـه وسـط أنـقـاض الـخـرائـب. والـحـيـوان جـاثـم عـلى رجـل يـرفـع ذراعـيـه، مـمـا خـيّـل لـبـعـض الـمـسـافـريـن بـأنّـه يـمـثـل دانـيـال في جـبّ الأسـود. والـتّـمـثـال مـنـحـوت في صـخـر الـبـازلـت الأسـود. وهـو إمّـا أن يـكـون قـدّ نـفّـذه بـدائي لـيـس لـه بـراعـة في الـفـنّ أو أنّ نـحّـاتـه لـم يـكـمـل عـمـلـه. وهـو لا يـسـتـحـق أن يـخـرج مـن مـكـانـه”
ومـرّ الـجـغـرافي الـفـرنـسي غـلـيـوم لـوجـان Guillaume LEJEAN في عـام 1862 بـالـعـراق في طـريـقـه إلى الـهـنـد. وزار بـابـل، ورأى الأسـد مـدفـونـاً إلى نـصـفـه في بـاطـن الأرض.
وفي عـام 1867 نـشـر مـقـالاً في مـجـلـة “حـول الـعـالـم Tour du Monde” الـبـاريـسـيـة عـنـوانـه : “سـفـرة في بـلاد بـابـل Voyage dans la Babylonie”. وقـد وضـع فـيـه عـمـلاً غـرافـيـكـيـاً نـفّـذه A. de Bar إعـتـمـاداً عـلى رسـم خـطـطـه الـمـؤلـف في الـمـوقـع.
وعـنـدمـا زار الأمـريـكي ولـيـام بـيـري فـوغ William Perry FOGG الـعـراق عـام 1874 ذهـب إلى بـابـل ورأى خـرائـب زقـورة بـيـرس نـمـرود (مـوقـع بـيـرسـبـا الـقـديـمـة). وظـنّ، مـثـل عـدد مـن الـغـربـيـيـن قـبـلـه، أنّـهـا بـقـايـا (مـجـدل بـابـل) أي بـرج بـابـل الّـذي ذكـرتـه الأسـاطـيـر الـتّـوراتـيـة.
وذكـر في الـصّـفـحـة 273 مـن كـتـابـه الّـذي نـشـره في لـنـدن في الـعـام الـتّـالي :
“ومـا زلـنـا نـرى مـطـروحـاً عـلى الأرض أسـد صـخـري ضـخـم كـان قـد وصـفـه ريـتـش Rich. وهـو غـائـر إلى نـصـفـه في الـتّـراب. وقـد تـصـوّر بـعـض مـن رأوه أنّـه يـمـثّـل دانـيـال في جُـبّ الأسـود فـهـو يـجـثـم عـلى رجـل مـدّ ذراعـيـه”.
ووضـع عـمـلاً طـبـاعـيـاً لـم يـنـفّـذ اعـتـمـاداً عـلى صـورة فـوتـوغـرافـيـة، فـقـد كـان أسـد بـابـل كـمـا ذكـر مـدفـونـاً إلى نـصـفـه في الـتّـراب. ولا شـكّ في أنّـه اعـتـمـد عـلى رسـوم نـشـرت قـبـلـه لـلـتّـمـثـال :
وقـد وصـلـت أوّل بـعـثـة تـنـقـيـبـات أثـريـة ألـمـانـيـة إلى بـابـل عـام 1899. وكـان يـتـرأسـهـا روبـرت كـولـدفـيـه Robert Koldeway. ووجـدت تـمـثـال الأسـد في الـحـفـرة. وأخـرجـه عـمـال الـتّـنـقـيـبـات مـنـهـا. ولـديـنـا صـورة فـوتـوغـرافـيـة لـعـمـال الـتّـنـقـيـبـات الألـمـانـيـة يـشـيـدون مـنـصّـة يـثـبّـتـون عـلـيـهـا الأسـد بـعـد أن أخـرجـوه مـن بـاطـن الأرض :
وصـورة أخـرى لـعـالـم الآثـار الألـمـاني روبـرت كـولـدفـيـه مـمـتـطـيـاً الأسـد :
ونـلاحـظ في هـذه الـصّـورة اكـتـمـال تـشـيـيـد الـمـنـصّـة الـواطـئـة الّـتي ثـبّـت عـلـيـهـا الـتّـمـثـال.
ولـديـنـا رسـم بـالألـوان الـمـائـيـة عـلى ورق (25،5 × 35،5 سـم.) نـفّـذه عـالـم الآثـار الألـمـاني فـالـتـر أنـدريـه Walter Andrae عـام 1902. وكـان روبـرت كـولـدفـيـه قـد اخـتـار فـالـتـر أنـدريـه لـيـسـاعـده في تـنـقـيـبـات بـابـل.
ويـظـهـر الأسـد في يـسـار الـجـزء الـعـلـوي مـن الـرّسـم كـمـا وضـع في مـكـانـه فـوق “تـلّ الـقـصـر” بـيـنـمـا نـلاحـظ أنّ جـدران الـقـصـر قـد أزيـحـت مـن حـولـهـا أطـنـان مـن الـتّـراب، فـقـد كـان الـتّـلّ الّـذي يـغـطـيـهـا يـرتـفـع إلى مـسـتـوى الأسـد :
ويـذكـر فـالـتـر أنـدريـه أنّ طـول الـتّـمـثـال حـوالي مـتـريـن ونـصـف، وأنّ طـولـه يـعـادل ارتـفـاعـه تـقـريـبـاً. ويـرتـكـز الـتّـمـثـال عـلى قـاعـدة صـخـريـة يـجـثـم الأسـد فـوقـهـا عـلى رجـل مـسـتـلـقٍ تـحـتـه.
ولا شـكّ في أنّ الـبـعـثـة الألـمـانـيـة أكـمـلـت إخـراج تـمـثـال الأسـد مـن بـاطـن الأرض ونـصـبـه واقـفـاً وتـشـيـيـد الـمـنـصّـة الـواطـئـة الّـتي ثـبّـت عـلـيـهـا بـيـن عـام وصـولـهـا إلى بـابـل في 1899 وبـيـن عـام 1902 الّـذي نـفّـذ فـيـه فـالـتـر أنـدريـه هـذا الـرّسـم.وتـظـهـر الـصّـور الّـتي تـنـتـمي إلى مـجـمـوعـة الأمـريـكي إريـك مـاتـسـون Eric Matson (12) ، والّـتي الـتـقـطـت عـام 1932، الـتّـمـثـال مـنـتـصـبـاً عـلى قـاعـدة عـالـيـة تـرتـفـع حـوالي مـتـريـن، شـيّـدت بـالإسـمـنـت :
ويـعـود تـشـيـيـد هـذه الـقـاعـدة إذن إلى الـفـتـرة الّـتي كـان الـبـريـطـانـيـون يـشـرفـون خـلالـهـا عـلى الآثـار الـعـراقـيـة. وهـنـاك مـشـاريـع في أيّـامـنـا هـذه لـتـرمـيـمـهـا، فـقـد أصـبـحـت بـقـدرة قـادر جـزءاً مـن “مـعـالـم تـاريـخـنـا الـحـضـاري” !
مـتى نـحـت الأسـد :
لـم يـتّـفـق الـمـخـتـصّـون عـلى تـاريـخ نـحـت الـتّـمـثـال، فـبـيـنـمـا يـعـتـقـد بـعـضـهـم أنّـه لا يـمـكـن أن يـكـون مـن فـتـرة أقـدم مـن بـدايـة الـتّـاريـخ الـمـيـلادي لـرداءة صـنـعـتـه وسـوء نـحـتـه، ولـهـذا لا يـمـكـن أن يـقـارن بـالـمـنـحـوتـات الـبـابـلـيـة الـبـاهـرة الـصّـنـعـة. وعـلى كـلّ حـال فـأسـلـوبـه، إن كـان لـه أسـلـوب، مـخـتـلـف عـن أسـالـيـب الـنّـحـت الـبـابـلي.
ويـعـتـقـد الـكـثـيـرون مـنـهـم في أيّـامـنـا هـذه أنّ تـاريـخ نـحـتـه يـمـكـن أن يـعـود إلى الـقـرن الـتّـاسـع أو الـقـرن الـثّـامـن قـبـل الـمـيـلاد، ربّـمـا إلى فـتـرة ازدهـار الـدّولـة الـحـيـثـيـة. جـلـبـه نـبـوخـذ نـصـر الـثّـاني أو أحـد الـمـلـوك الّـذيـن حـكـمـوا بـعـده كـغـنـيـمـة حـرب عـاد بـهـا مـن مـنـطـقـة الأنـاضـول إلى بـابـل.