مرقد الإمام الحسين (ع) في كربلاء

مرقد الإمام الحسين (ع) في كربلاء

كربلاء اكتسبت أهميتها التاريخية بعد استشهاد الإمام الحسين في واقعة الطف بكربلاء عام 61 هـ/ 680م. قبل ذلك، كانت مجرد أرض زراعية في منطقة الغاضرية، تطلق عليها أيضًا اسم “الطف” نظرًا لموقعها بين نهري العلقمي. مع مرور الوقت، فقد اندثرت آثار هذا النهر وتحولت كربلاء إلى موقع مقدس يسترجع ذكرى تلك الفاجعة التاريخية.

من موطن ضريح العباس بن علي، الذي استشهد إلى جانب الإمام الحسين في كربلاء، يتجلى التاريخ العميق لهذه المدينة. في السابق، كانت كربلاء مجموعة من القرى البابلية القديمة، فقد فنت واختفت تلك القرى مع مرور الزمن، وظلت هناك أطلال وتلال. اسمت كربلاء آنذاك “كربل” و”كرب إيلا”، معناها حرم الله في اللغة البابلية، وتُلقب أيضاً بـ”كوربابل” باللغة العربية. اكتسبت هذه الأرض أهميتها كموقع دفن الإمام الحسين في الحائر، حيث كان الماء حول قبره حارًا، وسميت كربلاء والحائر أيضًا بهذا السبب. كما كانت تعرف بـ”أم القرى” لموقعها على شاطئ “اكوباسي”، الذي كان اسمًا قديمًا لنهر الفرات القديم الذي يمر بها. ازدهرت كربلاء في أيام الكلدانيين والتنوخيين واللخميين والمناذرة، وكانت الحيرة عاصمة لملوكهم. المؤرخون يشيرون إلى أن القرى القريبة هي التي دفن فيها الإمام الحسين وأهل بيته، وهم الذين أقاموا قبره ونصبوا له علامة ورمزًا. ذكر أيضاً أن أول من زار قبر الحسين في كربلاء كان عبيد الله بن الحر الجعفي، وقد نثر بعض أبيات قصيدته التي تعبّر عن حزنه وتأثره بالمكان.

جابر بن عبد الله الأنصاري، الصحابي الضرير، زار قبر الإمام الحسين في العام 62 هـ، وفي نفس السنة قابل الإمام علي بن الحسين قرب القبر. وعند وصوله قال: “المسوني القبر”، ثم بكى وترحم عليه. في القرن الثاني للهجرة، زار أصحاب التوابين القبر وأقاموا يومًا وليلة بقربه. أم موسى، والدة الخليفة المهدي العباسي، كانت من أوائل الذين صرفوا الأموال على العناية بالقبر. خلال حكم أبي العباس السفاح، كانت الزيارة ممكنة، ولكن هارون الرشيد قطع شجرة السدرة وضيق الخناق على الزوار ودمر محيط القبر. المتوكل العباسي أعاد بناء القبر، لكن انزعج المتوكل وأمر بتدميره ومنازل حوله، ومنع الزيارة. المنتصر بن المتوكل أعاد بناء القبر في عام 247 هـ وأظهر لأهل البيت حبًا، مما دفع بعض العلويين، بقيادة إبراهيم المجاب، إلى الاستقرار في كربلاء بالقرب من مشهد الحسين بعد استشهاده، وكان إبراهيم أول علوي يطأ أرض كربلاء ويستوطنها مع ولده.

في عام 247 هـ/ 862 م، قام المنتصر العباسي بتفقّد مشهد الإمام الحسين وأمر ببناء ضريح له، مظلًا يرعاه ومفتوحًا للزوار. تم تجديد العمارة لاحقًا بواسطة محمد بن محمد بن زيد القائم. قام الداعي العلوي بتشييد قبة على القبر في عام 280 هـ/ 896 م، وأُضيفت لها بابان وسقفان، محاطة بسور. في عهد الدولة البويهية عام 379 هـ/ 979 م، بُني ضريح آخر من العاج ذي أروقة وقبة. أثناء بناء هذا الضريح، شهدت المدينة إنشاء بيوت وأسواق حول المشهد، وتم إحاطتها بسور كبير. في عام 399 هـ/ 1009 م، دُفِنَ أبو العباس الكافي بجوار الإمام الحسين حسب وصيته الشخصية. أما عام 403 هـ/ 1013 م، قام وزير ابن سهلان ببناء سور جديد حول المشهد. في عهد السلطان السلجوقي، قام الملك شاه ووزيره نظام الملك بتجديد السور عام 479 هـ/ 1082 م. أصبحت كربلاء عتبة مقدسة منذ القرن العاشر الميلادي، حيث يزورها المسلمون لزيارة الإمام الحسين والتبرك بها، وازدهرت فيها الزراعة والتجارة والعلوم والآداب. ابن بطوطة، السائح العربي المشهور، وصف كربلاء في زيارتها عام 726 هـ/ 1307 م، ووصفها بأنها مدينة صغيرة تحيط بها حدائق النخيل ويسقيها نهر الفرات، مع وجود الروضة المقدسة داخلها.

عام 247 هـ/ 862 م، شهد إنشاء مدرسة عظيمة في كربلاء توفر الطعام للزائرين. يُفتح باب الروضة بحجاب وقومة، والدخول يتطلب إذنًا، حيث يُقبل الزوار العتبة الفضية. يزين الأبواب أستار حريرية. عند فتح بغداد، زار الشاه إسماعيل الصفوي كربلاء، حيث قام بتذهيب الضريح وتقديم هدايا ذهبية. في عام 932 هـ/ 1544 م، أقيم ضريح جديد للإمام الحسين وتجديد للحضرة الحسينية. قاصدًا الإمام علي في النجف، اعتنى الشاه الصفوي بتجديد السور حول المشهد. يعلو ضريح الإمام الحسين منصة خشبية مرصعة بالعاج، ويتميز بمشبكين، أحدهما من الفولاذ الثمين والآخر من الفضة. يُزين الضريح بأوان ومزهريات ذهبية مرصعة بالأحجار الكريمة. في بداية القرن السابع عشر، وصف الرحالة الإسباني بيدرو تكسيرا كربلاء بأنها تحوي أسواقًا وبيوتًا لـ 4000 من العرب وبعض الإيرانيين والأتراك. بُنيت خانات للزوار، وقد كتب تكسيرا عن الروضة الحسينية وأهميتها الدينية. زار كارستن نيبور مدينة كربلاء عام 1765م ورسم مخططًا يوضح خمسة أبواب وسط المدينة حيث المشهد الحسيني.

كربلاء بتاريخها المشهود، حيث ورد من الرحالة كارستن نيبور أن بيوتها لم تكن متينة بناءً، إذ كانت تبنى باللبن غير المشوي. وقد أشار نيبور إلى أن أطراف الحضرة والصحن كانت متنورة بالشبابيك الكثيرة، وكان ذلك غريبًا في ظل نقص زجاج النوافذ في ذلك الوقت. ولفت الانتباه إلى وجود جامع كبير آخر للإمام العباس بن علي ووجود مزار خاص على الطريق إلى النجف، حيث سقط جواد الحسين. في العصر القاجاري، تم تذهيب الحضرة الحسينية ثلاث مرات، وصُنع صندوق فضي ثمين. في عام 1358 هـ/ 1920 م، جدد السلطان طاهر سيف الدين الإسماعيلي الشباك الفضي. الروضة الحسينية تحتفظ بخزانة تضم ذخائر نادرة، بما في ذلك مصاحف خطية نفيسة مثل مصحف بخط الإمام زين العابدين. وفي الجهة الشمالية الشرقية، يقع ضريح العباس بن علي، وهو عمارة بها قبة كبيرة ومنارتان. ضريح العباس يحتوي على خزانة تضم ذخائر نفيسة. هناك أيضًا قبور مقدسة أخرى، بما في ذلك ضريح الشهداء وقبر علي بن الحسين وعبدالله الرضيع. يُشيد بتاريخ وأهمية كربلاء التي تضم قبور الأئمة والشخصيات الدينية المعروفة.

في ظل ازدهار الزراعة والتجارة والحرف اليدوية، مثل صناعة القاشاني الملون والنقش بالصور والخطوط العربية، أكسبت كربلاء شهرةً عظيمة في تاريخها السياسي والعلمي والأدبي، وهي مكان لاحتضان حركة ثقافية واسعة. تألقت كربلاء بتأسيس أول مطبعة حجرية في العراق عام 1273 هـ/1856 م، وكانت تهدف إلى طبع الكتب الدينية. لعب موقعها القريب من نهر الفرات دورًا هامًا في توفير المياه، حيث ساعد فرع من الفرات في سقي حقولها وبساتينها. ولتحسين إمدادها بالمياه، أمر السلطان سليمان القانوني بشق قناة الحسينية عام 1533، وهو مشروع هندسي كبير نقل فيه الماء من الفرات إلى الحسينية. في القرن التاسع عشر، أثر الإهمال على قناة الحسينية، لكن تدخل الوالي حسن باشا وبناء سد وصيانة خانات على طول الطريق بين بغداد وكربلاء، ساعد في تحسين وضع كربلاء اقتصاديًا واجتماعيًا. تعتبر كربلاء مركزًا دينيًا وثقافيًا بارزًا، حيث أنجبت أول مطبعة حجرية وشهدت حركة ثقافية نابضة بالحياة.

رغم التهديدات التي واجهتها، رفض السكان القاطنين في كربلاء تلبية تلك التهديدات، الأمر الذي دفع القائد لتشكيل قوة عسكرية شخصية وشن هجومًا على المدينة، مستخدمًا المدافع. وفي النهاية، تم احتلال كربلاء في اليوم الحادي عشر من ذي الحجة سنة 1258هـ/1843م. إجمالًا، يمكننا التأكيد على أهمية العتبات المقدسة في تاريخ العراق، حيث شهدت نهضة ثقافية واجتماعية منذ بداية القرن التاسع عشر. ولعبت هذه المراكز الدينية دورًا حيويًا في تشكيل الوعي الوطني والمشاركة في تحديد الملامح السياسية للعراق الحديث، خاصة في حركة الجهاد والثورة ضد الاحتلال البريطاني. ورغم عدم مشاركة العتبات المقدسة في الأحداث السياسية خلال العهد العثماني، فإنها كانت مركزًا للمعارضة ضد السلطات العثمانية وشهدت مواقف ملحوظة من المرجعيات الدينية والمجتهدين الشيعة. من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، شكلت المدن مراكزًا للجذب والتفاعل الدائم مع الفئات والطبقات المختلفة، وسهمت في تعزيز علاقاتها التجارية والدينية. وكانت زيارات المسلمين من مختلف البلدان قاعدة اقتصادية واجتماعية هامة، ما ساهم في تعزيز اقتصاد هذه المدن، وكانت الموارد الرئيسية لها تعتمد على حقوق شرعية وهبات ونذور المسلمين، ومساهماتهم أثناء زياراتهم المستمرة.

الموضوع يستعرض أهمية العتبات المقدسة في العراق وتأثير الزيارات والتبرعات، خاصة من إيران والهند وجنوب العراق. يسلط الضوء على الأموال التي دخلت كربلاء والنجف خلال القرن التاسع عشر وبعده، مع انخفاض عدد الزوار بسبب التحديات السياسية والحروب. تشير المصادر المالية إلى دور مؤثر للمجتهدين ومؤسسات العتبات، وفي الوقت نفسه، يُلقي الضوء على التحديات والتقلبات في العلاقات السياسية بين العراق ودول إسلامية أخرى، خاصة إيران. يظهر أيضاً نقص المؤسسات الشيعية الكبيرة في العراق وتأثير ذلك على القوة الاقتصادية والتنظيمات الدينية في المنطقة.

بالصور …مرقد الإمام الحسين (ع) في كربلاء المقدسة

في بدايات القرن السابع عشر، كانت النجف تظل مدينة صغيرة وشحيحة المياه بعدد سكان لا يتجاوز الخمسمائة شخص. يتبيّن أن اعتماد العتبات المقدسة على مواردها الخاصة قد أعزّز استقلاليتها، وأيضًا استقلالية المجتهدين الشيعة وحوزاتهم العلمية. ثقافيًا، ساهمت العتبات المقدسة في العراق، وبشكل خاص في النجف، في الحفاظ على اللغة والثقافة العربية الإسلامية، ونشرها وترسيخها عبر قرون التخلف والظلام التي شهدها العراق. أسهمت أيضًا في تأسيس مدارس ومراكز علمية وجمعيات ثقافية وسياسية، وشحذتها بالعديد من العلماء والأدباء والشعراء، مثل محمد سعيد الحبوبي والشيخ محمد رضا الشبيبي وباقر الشبيبي وعلي الشرقي وجعفر الخليلي ومحمد مهدي الجواهري وغيرهم الكثيرون.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *