الأرمن العراقيون: تاريخ ومستقبل

الأرمن العراقيون: تاريخ ومستقبل

لقد تم تجاهل العديد من المجموعات الاجتماعية العراقية التي شكلت أساسًا للمجتمع اليوم، حيث تم إهمالها في كتابات الدارسين والمؤرخين العراقيين، الذين تناولوا حياة المجتمع دون التركيز على أفرادها وإسهاماتهم القيّمة. هؤلاء الأفراد لم يكونوا مجرد أرقام إحصائية، بل كانوا ذا بصمات حية وجهود ملموسة، ساهموا من خلالها في تقديم خدمات هامة للمجتمع على مر العصور.

الأرمن، الذين يحملون تاريخًا غنيًا بالإنجازات والسمعة الطيبة، يتميزون بحدة فهمهم ومهاراتهم. رغم فرادتهم كمجموعة اجتماعية ضمن الهيكل الاجتماعي العراقي، إلا أنهم كانوا مجتمعًا سالمًا نادرت فيه المشاكل بفضل تماسكهم الاجتماعي وتلاحمهم في المدن العراقية. دفعوا ثمنًا باهظًا كعراقيين، ومع ذلك، حافظوا على العلاقات الرائعة والتعايش السلمي مع مجتمعهم والآخرين.

رغم استقبال العراق للأرمن الذين فروا من تركيا، إلّا أن هناك حقائق تاريخية تؤكد وجود بعض الأرمن في العراق منذ القدم، حيث يعود بعضهم إلى العصور الوسطى. من المثير للاهتمام أيضًا أنه تأسست أبرشية للأرمن في البصرة عام 1222م، مما يظهر تأثيرهم العميق في التاريخ العراقي.

الأرمن يشكلون جزءًا حيويًا في بنية المجتمع العراقي، حيث يتعين دراسة تشكيلاتهم بكل تفصيل وموضوعية. استندت إلى مصادر موثوقة وشواهد متنوعة، بما في ذلك مقالات المؤرخ الأرمني آرا اشجيان ومقالات الكاتب الأرمني العراقي المقيم في أرمينيا. كما أفادتني معلومات من مقالات صائغيان والدكتور حنا جقماقجيان، إلى جانب مساهمات الدكتور فريد الله ويردي. استفدت أيضًا من كتابات مؤرخين أرمن مشهورين مثل يعقوب سركيس ونرسيس صائغيان ورازميك سيمونيان. تمت الاستفادة من مصادر بالتركية والإنجليزية، وتلقيت معلومات قيمة من السيدة دكرانوهي طوقاتليان وابنها ميناس جاقماقجيان، اللذين قدموا لي معلومات قيمة حول أوضاع الأرمن في العراق في الوقت الحالي. أعبر عن شكري وامتناني لهم.

منذ الماضي القديم حتى اليوم، يظهر الشعب الأرمن كجزء حيوي في بنية المجتمع العراقي. يعود تاريخهم إلى الآلاف من السنين، وكانوا جزءًا من إمبراطورية قديمة تمتد في شرق الأناضول وصولاً إلى السواحل المتوسط. مع امتدادهم الجغرافي الواسع، تعرضوا للتحديات والمجازر، بدءًا من الصراعات المحلية وصولاً إلى المجازر المأساوية في فترتي 1894-1896 و1915-1923 تحت حكم الدولة العثمانية.

الأرمن، ورغم تشرد آلافهم في بلدان مختلفة بعد تلك الأحداث الكارثية، وجدوا مأوى في العراق، حيث ارتبطت مصيرهم بالموصل وبقية مناطق العراق. اليوم، يتكون الجالية الأرمنية في العراق من أحفاد القدماء الذين ارتبطوا بالعراق بعد توطنهم هنا، والذين ساهموا في تطوير الحياة الاقتصادية والاجتماعية في مناطق مختلفة من العراق. تشير التقديرات إلى وجود حوالي 18-20 ألف أرمني في العراق، يعيشون في مدن مثل بغداد والبصرة وكركوك والموصل وزاخو وغيرها. وتروي شهادة السيدة دكرانوهي طوقاتليان حول استقبال العوائل الموصلية للمهاجرين الأرمن بعد وصولهم إلى الموصل، حيث كانوا يقدمون لهم سلالًا من الخبز والحلوى.

يعتز الأرمن العراقيون بتاريخهم المميز وبالشخصيات الأرمنية البارزة التي أسهمت بشكل كبير في خدمة العراق. قادة وحكام أرمن منذ العصور القديمة شغلوا مناصب هامة في العراق، وظلوا يتميزون بالنزاهة والأنشطة العملية في مختلف المجالات.

من بين هؤلاء، يبرز السلطان بدر الدين لؤلؤ الذي حكم الموصل في القرن الثالث عشر والذي كان أرمني الأصل. الرسام الواسطي، الذي عاش في القرن الثالث عشر، كان أيضًا أرمني الأصل. يعد يعقوب أميرجان، وُلِد في بغداد، من الشخصيات الأرمنية المهمة، حيث قاد مجموعة من رجال البصرة للدفاع عن بغداد في مواجهة طهماسب قولي خان في 1732.

تمثل القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فترة استمر فيها تأثير الشخصيات الأرمنية في بغداد، مع تولي بيدروس كوركجي رئاسة الفرائين ويوسف كيفورك رئاسة الصيارفة. أما التاجر الأرمني نعوم سركيس، فكان رائدًا في استقرار منطقة الشطرة وشجع الناس على الاستقرار فيها.

تظهر الحفريات التاريخية أن العلاقات بين العراق وأرمينيا تعود إلى العصور القديمة، نتيجة للقرب الجغرافي بينهما. في كتابي “العثمانيون وتكوين العرب الحديث” أشير إلى أن العراق وأرمينيا كانتا مسرحًا لصراعات الإمبراطوريات في الشرق الأوسط على مر العصور. من العصور القديمة حتى الصراع العثماني-الإيراني الذي استمر أربعة قرون كاملة.

توثق جغرافيا العلاقات التجارية بين العراق وأرمينيا، حيث استخدم المسلك التجاري الذي ربطهما عبر مسالك الموصل نهريًا وبريًا. استقر العديد من الأرمن في بلاد ما بين النهرين تجاريًا، وأثرت توسعاتهم التجارية على العلاقات بين العراق وأرمينيا.

وفي العصور الوسطى، تزايد توطن الأرمن في العراق، خاصة في القرون الخمسة الأخيرة، حيث شاركوا في معاناة العراقيين عبر القرون التاسع عشر والعشرين. أثبتت العراقيين حسن الضيافة تجاه الأرمن النازحين منذ بدايات القرن العشرين بعد معاناتهم في مذابح 1915.

في مجال التجارة، توارد التجار الأرمن من إسطنبول إلى العراق في القرن الثامن عشر، وكان لديهم تأثير كبير في اقتصاد العراق الذي ازدهر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.

تتبع الرحالة الإنجليزي جاكسون للأحداث الاقتصادية في بغداد ويشير إلى السيطرة الاقتصادية للأرمن والدور البارز الذي يلعبونه في التجارة. يصف السوق الواسعة ببغداد ودور الأرمن كتجار رئيسيين. يذكر أن النحاس الذي يُرسله التجار الأرمن من الموصل إلى بغداد والبصرة يكون من نفس النوع المصنوع في إنجلترا.

يُظهر تقرير جاكسون أن التجارة بين الموصل وبغداد زادت بسرعة، وأن العمل في العراق كان أقل تكلفة من أوروبا، مما أدى إلى نقل المصنوعات بأسعار تنافسية. يتحدث أيضاً عن الشركة الإنجليزية التي أصبحت ملكية الأرمن واليهود بعد احتلال بريطانيا للعراق في عام 1917.

يعتبر الأرمن، جنباً إلى جنب مع اليهود، غالبية موظفي الشركة الإنجليزية التي أصبحت مالكة لشركة بغداد للقوة الكهربائية. يشير التقرير أيضاً إلى تاريخ الأرمن في المنطقة خلال القرن التاسع عشر، مع التركيز على التحولات الاجتماعية والتحديات التي واجهوها، والتي أدت في النهاية إلى نزوح الكثيرين منهم.

الأرمن في العراق يشكلون كتلة مستقلة عن المسيحيين العراقيين، سواء كانوا كلدانًا أم سريانيين أم آثوريين، وهم أيضًا مستقلون مذهبيًا بوجود كنائس أرثوذكسية وكاثوليكية. تتوزع كنائسهم في عدة مدن عراقية بارزة، بما في ذلك كنيسة القديس كرابيت للأرمن الأرثوذكس في كمب سارة وكنيسة القلب الأقدس للأرمن الكاثوليك في الكرادة الشرقية. يعدون بكنائس أخرى في بغداد والموصل والبصرة وكركوك وزاخو.

في مجال التعليم، يمتلك الأرمن مدارسهم الخاصة لأبنائهم، حيث تأسست أول مدرسة أرمنية في بغداد عام 1852 تحت اسم “تاركمانجاتس”. كما أن لديهم مدارس أخرى في الموصل وكمب الكيلاني ببغداد، ويذكر أنهم أنشأوا أول مدرسة مختلطة في العراق عام 1917. تعرضت بعض هذه المدارس لتفجيرات خلال السنوات الأخيرة بفعل الإرهابيين.

يُشير تاريخ الأرمن في العراق إلى إسهاماتهم في مختلف المجالات، بما في ذلك التعليم والعمل الاقتصادي.

في العراق، تمتلك الجالية الأرمنية جمعيات اجتماعية وثقافية ورياضية تاريخية، حيث تأسست الجمعية الخيرية الأرمنية العمومية في بغداد في عام 1911 وأعيد افتتاحها في عام 1959. شملت الجمعيات مثل جمعية الشبيبة الأرمنية والنادي الرياضي الأرمني “الهومنتمن” الذي تأسس في عام 1949. كما شهدت البصرة نشاطًا ثقافيًا وخيريًا من قبل الجالية الأرمنية.

تأتي هذه الجمعيات بإطار محبة الثقافة والحضارة، حيث كانت لها حرية فاعلة في تقديم الأمسيات الثقافية والفعاليات الاجتماعية والمشاركة في المهرجانات الرياضية. عملت هذه الجمعيات والنوادي بلا معوقات على تعزيز التبادل الثقافي والرياضي في المجتمع.

في مجال الطباعة والصحافة الأرمنية في العراق، بدأت أول مطبعة أرمنية في بغداد عام 1874، حيث طبعت المناهج المدرسية وأصدرت صحيفة “بونج” بعد صدورها في عام 1890. صدرت صحف أرمنية مختلفة في بغداد على مر العقود، من بينها صحيفة “بونج” و”تايكرس” و”كويامارد”. أثبتت هذه الصحف والنشرات المدرسية أهميتها في توثيق الحياة المدرسية والأنشطة الاجتماعية للجالية الأرمنية في العراق. وعلى الرغم من عدم وجود صحيفة حالية للأرمن العراقيين، إلا أن هناك نشرات منفصلة يتم إصدارها بشكل متفرق.

اترك تعليقك


لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *